ناتالي الخوري غريب: الرواية حكاية موازية لما يجري في العالم

Views: 985

كه يلان مُحمَد

في كتابة الرواية أنت تعيش الفرضيات المحتملة، تلك التي لا يسمح لك عقلك بالسير فيها في حياتك الواقعية. يرافقُ عملية الكتابة قلقُ وهواجس وقد تتصاعدُ حدة التوتر مع كتابة الرواية، لأن تأسيس العمل الروائي عبارةُ عن فعل إبداعي يتكئ على مبدأ المعرفة وبذلك يتشابك فن الرواية مع المفاهيم الفلسفية، يقولُ ألبير كامو «إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فاكتب الرواية»، وهذا يعني أن الرواية لا تنفصل عن التأمل والمساعي الرامية لإعادة تأويل المعطيات على مستوى جديد، وما يكسبُ فن الرواية خصوصية هو الانفتاح على شتى المواضيع وانصهارها في بوتقة السرد حول حيثيات كتابة الرواية، ودور الخلفية الثقافية على اختيارات الروائي.

كان لنا حوار مع الكاتبة والروائية اللبنانية ناتالي الخوري غريب، فإضافة إلى مؤلفاتها الروائية نشرت الكاتبة دراسات عن التصوف الفلسفي وتمثلات التصوف في النصوص الروائية، صدرت لها الرواية الأولى بعنوان «حين تعشقُ العقول» وآخر ما صدر لها كتابُ «أزاهير العبث» يضمُ مقالات تأملية.

■ كيف كانت علاقتك بفن الرواية قبل أن تبدأي كتابة نصك الروائي؟

□ كقارئة، كنت وما زلت أنظر إلى الرواية على أنه عالم يمثل لي الحماسة الزائدة للحياة، أقرأها بشغف الذي يريد أن يضاعف حياته، أن يعيشها بكثافة، خاصة تلك الروايات التي تقنعنا شخصياتها، فنتماهى معها. لقد علمتني قراءة الروايات حرفة المشي في المتاهات الحياتية، أقصد فن المعيش في هذا الواقع. لقد علمتني أن التعددية حتمية، وأسباب الاختلاف بين البشر كثيرة كأسباب الوفاق، وأن القضايا لا تستمد أحقيتها إلا من نتائجها، تلك التي يكتبها التاريخ، وأن ادعاء امتلاك الحقيقة هو السبب الجوهري لمظاهر البشاعة في الحياة. لقد صالحتني الرواية مع الزمن، مع الوقت، مع الانتظارات المؤلمة. في قراءة الروايات، أنت على تواصل مباشر مع العقلاء والمجانين والعشاق والمتآمرين والطيبين والأنقياء والخبثاء، أنت تدخل عوالمهم، رؤوسهم، قلوبهم، تتألم مع الطيبين، وتغضب مع الغاضبين، وتحضن الوحيدين. الرواية بالنسبة إليّ، كتابة وقراءة، ليس مجموعة أوراق بغلافين، إنها حياة تدعوك إلى عيشها حبا وانتصارًا وخذلانًا وفقدانًا، وحياة تجنبك التيه في متاهات مماثلة.

■ هل تأثرت في تجربتك الأولى بأعمال معينة، أو صادفت حدثًا شعرت بأنه لا يمكن التعبير عنه إلا في الشكل الروائي؟

□ تكمن أهمية الرواية في أنها أكثر الأنواع الأدبية مرونة في إعطاء مساحات من حرية التعبير، قولا وشكلًا وتقنيات، لأنها في ارتقاء وتطور متواصلين، وفي تجريب دائم يحاول مواكبة التبدلات الحياتية والاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها. انطلاقًا من مرونة الرواية على استيعاب كل أنواع التجريب ومساحات الحرية التي تخلقها، أستطيع أن أقول إنني وجدت فيها تلك المساحة التي أستطيع أن أضع فيها أفكاري بكل متناقضاتها، أن أتكلم على التعدديات بعيدًا من كل أحادية فكرية، أن أنتقل فيها من بلد إلى آخر في تصوير الإنسانية في عمق جوهرها وتوقها إلى الخلاص، من دون انحياز إلى احتكار الحقيقة لفكر دون آخر، أو دين دون آخر، لذلك لا أقول إنني صادفت حدثًا بقدر ما أصف الحال بالأرض الخصبة المهيأة لأنواع الزراعة كافة. الرواية حقل، تمشي فيه بين الزيتون والحور والسنديان، واللوز والزهر والورد، والمنتور والياسمين، كذلك الشوك والبلان والقندول. لأعود إلى الشق الأول من سؤالك عن تأثري في تجربتي الأولى، كان تأثرا بالأدب الروحاني تحديدا، ميخائيل نعيمه في «مرداد» وجبران خليل جبران في «النبي» وباولو كويلو في رواياته الأولى، واقتناعي بدور الرواية في رحلة البحث الروحي عن الجوهر الإنساني، بحثًا لا إسقاطات فيه، بل تجارب حية، لا يمكن أن تنقلها إلا الرواية بتعدد أصواتها واختباراتها الوجدانية والكيانية.

■ يرى النقاد أن ما تدور حوله الرواية الأولى عبارة عن سرد لتجربة ذاتية، وسمي هذا النوع برواية التكوين. هل يتمثل عملك الأول على هذا التوصيف؟

□ لا يمكن أن تكون الكتابة بكل أنواعها انفصالًا عن الذات، خاصة حين يكون الكاتب صادقًا مع ذاته ومع الناس. وقد ذكرت في حوار سابق، حول سؤال الرواية الأولى:» كانت روايتي الأولى»حين تعشق العقول»، إصدار دار سائر المشرق 2015 ، في مكان ما، أقرب إلى هوية لي، هوية أردت أن أحملها كل أفكاري واقتناعاتي، في الحياة والقضايا الكبرى والصغرى، والفلسفة والمثل، والتعددية الاجتماعية والدينية، والحب الصوفي. وكأنني كنت أردتُ منها أن تعالج لي مسألة العدالة الإلهية، السماوية منها والأرضية.. لم يكن يهمني أي تقنية اعتمد، وما هو أسلوب التشويق الأكثر سرعة في الوصول إلى المتلقي، كنت أصرخ. كنت أريد أن أصرخ، أن أجاهر بكل ما يشغلني من هواجس تتعلق بالحالة الإنسانية التي رأت أمام عينيها بعد تحقيق العدالة». في الرواية أنت تسمح ليمناك بأن تصفع وجهك بقسوة، ومن ثم تسمح ليسراك بأن تحضن وجهك، أنت تقع، ومن ثم ترفع نفسك، أنت تعري أفكارك أمام الملأ، وتعرضها على الرصيف، وتسمح للمارين أن يبصقوا في وجهك أو أن يثنوا عليك، في كتابة الرواية أنت تعيش الفرضيات المحتملة، تلك التي لا يسمح لك عقلك بالسير فيها في حياتك الواقعية، في كتابة الرواية، أنت تسمح لسيناريوهات الخيال اللامحدودة بأن تمضي في مسيرتك، تلك التي لا تسمح بتمريرها في وعيك. أنت تعري نفسك أمام نفسك، ربما لتفهم نفسك أكثر وخياراتك أكثر، وربما لترمم ما تصدع من ذاتك، ولكن بما أنها روايتي الأولى، كانت رقابة الوعي النقدي لديّ حاضرة في الحذف هنا وهناك.

■ هل تعتقدين أن السر وراء تصاعد الإصدارات الروائية يكمن في ما يوفره هذا الفن من الحرية، في إطار أوسع لتناول المفاهيم الاجتماعية والفكرية والسياسية، وتراخي سلطة الرقيب في عالم الرواية؟

□ قدرة الرواية في مرونة أشكالها وأنواعها، على صوغ حكاية الإنسان وعلاقته بالعالم، من خلال معيشه اليومي والفكري والسياسي والأيديولوجي. تصاعد الإصدارات نابع من الحاجة الملحة للتعبير عن كوامن الذات الإنسانية، إما احتجاجًا على الأوضاع القائمة، وإما تبريرًا لأفكار في وجه أخرى، وإما صرخة تتغلف بصدى التباساتها هربًا من الكلام المباشر على لسان الكاتب، فتستعير صوت الراوي لتقول ما تشاء، وإما خلق عالم مواز يستحيل حضوره في الحياة الواقعية. أما سلطة الرقيب في الرواية فأنت ككاتب تتحرر منه من خلال تعدد الأصوات، وقد قرأنا منها كثيرًا في روايات ما يعرف بمرحلة الربيع العربي، لكن تعدد الأصوات هذا ينتظرك على المفرق، لأنك ككاتب أنت تمثل الأصوات كافة في روايتك، مهما حاولت أن تكثر الأقنعة على وجوه شخصياتك، ستجد في عمق كل منها صوتًا خفيا لك، أو صوت من أثر فيك عميقًا، سلبًا أو إيجابًا. وهذا ما ساعدني في كتابة روايتي الثانية، «هجرة الآلهة والمدائن المجنونة»، الصادرة أيضا عن دار سائر المشرق 2016، حول الحرب في سوريا، والمعاناة الإنسانية وتحديدًا المعاناة الفكرية والإيمانية، كذلك الوقوف أمام الموت بسبب إيبولا في افريقيا، وقتل الإيزيديين في العراق، وبذلك تكون الرواية حكاية موازية لما يجري في العالم، ليس توثيقًا للمرحلة حسب، بل غوصًا في التطور الفكري والتحولات النفسية والسياسية والفكرية.

■ تقام ورشات خاصة بكتابة الرواية. في رأيك إلى أي مدى يستفيد المشاركون في هذه الدورات التدريبية وماذا عن تجربتك؟ هل شاركت بالحديث عن تجربتك مع الكتابة؟

ـ لم أشارك في أي من الورشات الخاصة بكتابة الرواية ليكون لي حكم نابع من تجربة مباشرة. لكنني أعتقد أن القراءات الكثيرة لروايات جيدة وغنية، تسهم كثيرًا في بناء ثقافة كاتب الرواية، خاصة في المجال الذي يحب الكتابة فيه. الكتابة الروائية قبل أي شيء هي كتابة إنسان مسكون بالهواجس، إنسان يحمل قضايا يريد أن يرفع لواءها، وهذه أمور لا تُعطى من خارج، هي أمور نابعة من الداخل، وربما تسهم هذه الورشات الكتابية في صقلها.

■ ترجمت أعمال الروائيين المعاصرين بغزارة. كيف انعكس ذلك على وعي القراء. هل أصبحوا أكثر إداركًا لخصوصيات العمل الروائي؟

□ لا شك في أن الإنسان هو نتاج تراكمات خبراته وتراكمات ما يقرأ. قراءة الأعمال الروائية المترجمة توسع آفاقنا كقراء على أكثر من مستوى. كيف يقرأ الكتاب مجتمعهم وسياساتهم وأفكار سابقيهم وتطورات مجتمعهم، ونحن نتعلم كيف يعيش إنسانهم، كيف تتفاعل الأجيال مع من سبقها ومن يليها، كيف يطورون تقنياتهم. شخصيا، أتابع بشغف الروايات المترجمة، خاصة تلك الفكرية والفلسفية، أخص منهم إرفين يالوم، الطبيب النفسي والفيلسوف الأمريكي، فهو يقدم روايات تثري القارئ بعلم النفس والاجتماع والعلاج بالفلسفة والأفكار بعيدًا عن كل حيز نظري، بتقنيات فيها الكثير من التجديد والمتعة.

كذلك، روايات ميلان كونديرا التي يقدمها بنكهة خاصة يتداعى فيها البنيان الروائي النمطي كما الحياة المعاصرة بمفاهيم جديدة وغريبة، وبتناسل لا عضوي لم نعتد عليه في الرواية العربية، إذ إن قراءة الآخرين تجعلنا أكثر فهمًا لطبيعة حياتهم، وأكثر وعيًا وفهمًا لطبيعة حياتنا، ما ينعكس إيجابًا على متطلبات الوعي والقبول بالتعدديات.

■ إلى جانب أعمالك الإبداعية تقدمين قراءات للنصوص الأدبية. أين وعيك النقدي من ذاتك الإبداعية؟

□ بدأت بكتابة الرواية بعد إنهائي مرحلة التخصص في الأدب الصوفي والفلسفي، وتدريسي لمقرر السرديات. ربما في الروايتين، الأولى والثانية، كذلك المجموعة القصصية: «العابرون» إصدار دار الإبداع 2017، كانت الرقابة النقدية أكثر حضورًا في نصوصي، لأنه لم يكن من السهل عليّ التحرر من سلطانها، خاصة أن الكتابة النقدية المنهجية في الأبحاث تحتم عليك رصانة لا تستطيع التفلت منها. إلا أنني أستطيع القول بأنني قد تحررت أخيرًا في كتابة رواية «الطريق الرابع»-ستصدر قريبا- تحررتُ من رقابتي النقدية على ذاتي، لأني كتبتها بروحية أخرى، روحية المقبل على الحياة وحكاية العالَم وما فيه من أفكار وفلسفة وعلاقات وحب، تحررت من كل أنواع الرقابة وسلطان النمطيات، شكلًا ومضمونًا. هي رواية تشبهني أيضًا، تشبه أفكاري، وقد سمحت لنفسي بالمضي فيها بعيدًا عن النظريات النقدية التي أدرسها، من دون أن أنكر أنني كقارئة روايات نهمة، عربية وغربية، أصبحت نتاج تراكمات وخبرات من أقرأ لهم، بطريقة مباشرة أم غير مباشرة.

وفي ما يتعلق بكتابتي بعض القراءات النقدية، كأبحاث، فهي من صميم عملي البحثي والجامعي الذي يتطلب متابعة دائمة، بمنهجية صارمة، وقد اقتربت من إنهاء كتابي حول الرواية الفلسفية، ودورها في تبسيط الفلسفة ونشرها. أما مقاربات الروايات التي أكتبها في الصحف، فهي أقرب إلى تذوق بعض الروايات بحس القارئ الذي يجد فيها ما يجدر به مشاركته مع متذوقي هذا الفن الجميل والغني.

***

(*) القدس العربي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *