تَعطُّل الحقيقة في الإعلام اللبنانيّ

Views: 19

د. مشير عون

(الجمعة 8 تشرين الثاني 2019)

من أسباب التأزّم اللبنانيّ خضوعُ الإعلام اللبنانيّ لمشيئةٍ هي غير مشيئة البحث عن الحقيقة. من النادر أن تقوى مؤسّسةٌ إعلاميّة لبنانيّة على تمويل ذاتيّ محض. معظمها، لا بل جميعها، تستعطي الناسَ النافذين في الداخل أو في الخارج. لذلك يتّسم الإعلام اللبنانيّ المقروء والمسموع والمرئيّ بسمات الانحياز السياسيّ الأيديولوجيّ. (satake-usa.com) وتتفاقم خطورة التبعيّة الماليّة حتّى يصير الواقع اللبنانيّ من جرّائها مسألةَ نظر ورأي وتفسير. في الإعلام اللبنانيّ تتحقّق رؤية الفيلسوف الألمانيّ نيتشه الذي رسم أنّ الوقائع لا وجود لها على الإطلاق. جلُّ ما في الأمر تفسيراتٌ وتأويلاتٌ وتخميناتٌ وتناولاتٌ حرّة. 

الحدث اللبنانيّ، في واقعيّته المادّيّة التاريخيّة الملموسة، ينحجب انحجابًا حين تنقله وسائلُ الإعلام.فتتقلّص حقيقتُه تقلّصًا يجعله مطيّةً لأغراض التفسير السياسيّ الانحيازيّ الذي تؤيّده المؤسّسة الإعلاميّة انتصارًا لمصالح المقتدر النافذ المموِّل. فإذا بالناس تُعرض عن الحدث في وقوعه الحسّيّ المجرّد، وتنساق انسياقًا وراء الاستثمار السياسيّ والتفسير الأيديولوجيّ. ومن ثمّ، يختلف اللبنانيّون حتّى في أرقام المعاينات الحسابيّة، وخلاصات التحاليل العلميّة،ونتائج الفحوصات المخبريّة. حتّى الفساد عينه يصبح في الإعلام اللبنانيّ وجهة نظر !

 

لذلك ينبغي التذكير في زمن الأزمات العاصفة بصفات الإعلاميّ الحقيقيّة الثلاث، عنيتُ بها أوّلًا الجدارة والكفاءة والاقتدار والمعرفة، وثانيًا النزاهة والشرف والعفّة والموضوعيّة، وثالثًا حسّ النقد وحسّ المسؤوليّة وحسّ التمييز الفطن بين الأولويّات الوجوديّة المصيريّة التي ينبغي أن يعتصم بها وطنٌ هشٌّ منعطبٌ كالوطن اللبنانيّ. يبدو لي، في مقام الصفة الأولى، أنّ كثرة المتخرّجين من كلّيّات الإعلام تجعل التزاحم على المهنة يُفقد الإعلاميّ العزمَ على الانصراف الطوعيّ إلى القراءة الفكريّة، والثتقّف السياسيّ، والتمكّن المهنيّ. ثمّة مصنّفاتٌ في الفكر السياسيّ، وفي التاريخ العالميّ، وفي الآداب الكونيّة والسيَر الحياتيّة ينبغي أن يتبحّر فيها الإعلاميّ قبل أن ينطق نطقًا حصيفًا بنّاءً من على منابر المؤسّسة الإعلاميّة. فالإعلاميّون اللبنانيّون المثقّفون أضحوا قلّة نادرةً في المشهد الإعلاميّ الراهن، نبحث عنهم بحثًا مضنيًا من أجل أن نفوز بتصوّر موضوعيّ وفهم دقيق لوقائع التأزّم اللبنانيّ الحاليّ.

في موضع الصفة الثانية أشعر أنّ الفساد الذي ضرب في أعماق المجتمع اللبنانيّ أصاب إصاباتٍ قاتلة أهل الإعلام. ذلك بأنّهم يضطلعون بمسؤوليّة خطيرةِ الشأن تسوِّغ للنافذين محاصرتهم بالإغراءات الماليّة، وتطويقهم بوعود الترقية ومفاتن المناصب. كثيرٌ من الإعلاميّين اللبنانيّين باتوا اليوم يطمحون إلى الانخراط في معترك السياسة، وقد عاينوا المكاسب المثيرة المغرية التي يجنيها السياسيّون من جرّاء تسلّطهم على رقاب الناس المستعبَدين. لذلك تتبدّل الأسئلةُ والمعايناتُ الإعلاميّة بتبدّل ضيوف الإعلاميّين. ولكلّ ضيف مقامٌ ومجالسةٌ ومقاربةٌ ومداورةٌ ومناورةٌ بحسب ما يُغدقه من عطايا منظورة وغير منظورة.

أمّا الصفة الثالثة، فهي أخطر الصفات على الإطلاق لأنّها تفترض في الإعلاميّ القدرة على تحسّس مراتب الأولويّات المصيريّة في زمن التأزّم الكيانيّ. فكلّ قول إعلاميّ عنفيّ، مهما اشتدّت ضرورتُه، لا يليق ولا يبني إذا ما ساقه الإعلاميّ في قرائن الاحتقان الغرائزيّ الفتّاك. وكلّ قول إعلاميّ سلميّ، مهما فَتُر الإقبالُ عليه، لا يجوز كتمُه وحجبُه ونفيُه بحجّة الاقتصار على وجهٍ من وجوه الاحتشاد الضاغط في الشارع. كرامة الإنسان اللبنانيّ الذاتيّة وحرّيّته وحقّه في المعرفة الصحيحة قيَمٌ أصليّةٌ تعلو على مصالح المؤسّسة الإعلاميّة الماليّة، ومصالح استمراريّتها وقدرتها على المنافسة المربحة. فليس بنا حاجةٌ إلى الإكثار المرَضيّ من المؤسّسات الإعلاميّة التي تعتمد التزييف والتضليل تأييدًا لأصحابها المموِّلين ولتصوّراتهم الأيديولوجيّة. سلامةُ الاجتماع اللبنانيّ تتصدّر على فرادة السَّبَق الإعلاميّ، مهما علا ثمنُ إنجازه. سلامة الحقيقة الشاملة المنيرة تتقدّم على تناولات الجزئيّات المتبعثرة، مهما اشتدّت قدرتها على الحشد والاستثارة والاجتذاب الإعلاميّ في نِسَب الإقبال والمشاهدة.

 

حين يتخلّى الإعلاميّون عن هذه الصفات الثلاث تُصاب الحقيقة بأشدّ ضروب المعاناة والتأزّم والتعطّل. ذلك بأنّ الحقيقة لا تُطيق مساكنة المال الفاسد. وعليه، يسأل اللبنانيّون : كيف يمكن الإعلام الفاسد أن يحارب السياسة الفاسدة في لبنان ؟ هل يستطيع الفساد أن يحارب الفساد ؟هل يجوز لنا أن نستخدم بعضًا من الشرّ لكي نحصل على بعض من الخير في قرائن التعقّد اللبنانيّ ؟ وما قيمة الخير الجزئيّ الذي يفوز به اللبنانيّون إنْ هو استند إلى شرّ أعظم منه في الأنظمة والبنى والمؤسّسات والممارسات ؟

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *