عندما فضَّلت أوروبا مسألة النازيّة

Views: 656

د. محمود حدّاد

هناك زوايا عديدة لكِتابة التاريخ، فهناك الزاوية السياسيّة والزاوية الاجتماعيّة، وكذلك الاقتصاديّة والديموغرافيّة، وغيرها كثير، إلّا أنّه يُمكن تقسيم هذه الزوايا أو الاختصاصات إلى أجزاء أصغر أيضاً. فإذا أخذنا التاريخ السياسيّ مثلاً لقلنا إنّ هناك تاريخَ الأحداث الفعليّة والتاريخ الرسميّ الذي يكتبه مؤرِّخو الحاكِم، والتاريخ الذي تكتبه أو تحتفظ به المُعارَضة وينتقل شفهيّاً إلى أن يُسمح بكِتابته هو أيضاً. وهناك التاريخ الدعائيّ الذي يخفي أموراً ويُظهِر أخرى بحسب أيديولوجيا الفئة الحاكِمة في مكان و/ أو زمان معيّن.

في السنوات الماضية ظهرت كُتبٌ ومقالاتٌ أكاديميّة عدّة مزعومة لباحثين غربيّين تتحدّث عن العلاقة بين الاتّجاه القوميّ العربيّ من جهة والنازيّة الألمانيّة والفاشيّة الإيطاليّة من جهة ثانية خلال الحرب العالَميّة الثانية والتقارُب الأيديولوجي بين هذه الأطراف. وكان أكثر الباحثين المُفترَضين نشاطاً في هذا المجال بيتر واين Peter Wien الذي نَشر العديد من الكُتب والمقالات في هذا الشأن. وقد اعتبر أنّ التقارُب الفكريّ بين القوميّة العربيّة والقوميّة الاجتماعيّة الممثَّلة بالنازيّة كانت في أساس بعض الخطوات السياسيّة العربيّة التي اتُّخذت للتقرّب من برلين ودرس إمكانيّة التحالُف ضدّ الاحتلال البريطاني للعراق وفلسطين والحركة الصهيونيّة في فلسطين والاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان. أمّا الحقيقة فكانت عكس ذلك تماماً لأنّ الحركة القوميّة العربيّة كانت منذ نشأتها أثتاء الحرب العالَميّة الأولى تُحاول العثور على حليفٍ دوليّ يساعدها على تحقيق الاستقلال. لذلك، تحالفت الحركة العربيّة مع بريطانيا في البداية ظنّاً منها أنّ لندن ستفي بالوعود التي قطعتها على نفسها في مُراسلات حسين- مكماهون في بداية الحرب. وعندما حَنِثت بريطانيا بوعودها، انتقلت الحركة العربيّة إلى مُحاولة التحالُف مع الولايات المتّحدة حيث لم يكُن لهذه الأخيرة مَصالح واضحة في المشرق العربي وقتها. وقد عبَّرت عن هذا المَوقف عندما زارت لجنة كينغ-كراين الأميركيّة مُدناً عدّة في المنطقة لرفْع تقريرٍ لمؤتمر الصلح في باريس عن رغائب السكّان المحليّين. وكان هذا مُتوافِقاً مع مَوقف الوطنيّة المصريّة في ثورة العام 1919 بقيادة سعد زغلول.

وعندما تمّ فرْض الانتدابَين البريطاني والفرنسي على المشرق، خَفَت نشاط الحركة العربيّة الشاملة وتحرّكت الوطنيّات الأصغر في هبّاتٍ وثوراتٍ مسلَّحة وغير مسلَّحة في العشرينيّات: في العراق (1920) وسورية (1925) وفلسطين (1929). وعندما تغيّرت خريطة القوى الأوروبيّة وعادت ألمانيا المهزومة في الحرب الأولى إلى تأكيد ذاتها في الثلاثينيّات تحت قيادةٍ نازيّة، فكَّرت الحركة العربيّة بمُحاولة التحالُف مع القوّة الأوروبيّة الصاعدة التي تُنافِس القوى التي تُصليها استعماراً واستبداداً وتحول دون تحقُّق أمانيها – أو هكذا خُيِّل للشباب الوطني المملوء براءةً سياسيّة. كانت المسألة بهذا الحجم لا أكثر ولا أقلّ: تجريبيّة سياسيّة خالية من الأيديولوجيا إلّا في ما يتعلّق بالمبادىء القوميّة العربيّة العامّة.

لماذا نقول هذا هنا والآن؟ لسبب بسيط هو أنّ للغرب ولبريطانيا بالذّات في الفترة التي عنها نتحدّث قصّةً مُماثِلة للّتي نُتَّهم بها. فمِن الأمور التي أخفاها التاريخ الأوروبي المُعاصر كان علاقة “الديمقراطيّة” البريطانيّة بالنازيّة في المرحلة التي سبقت الحرب العالَميّة الثانية. فالأضواء كانت تُسلَّط على فترة الحرب ومَثالب النازيّة وعُنفها وديكتاتوريّتها من دون دراسة علاقاتها السابقة ببريطانيا أو بالدول الأوروبيّة الأخرى. إلّا أنّ مرور الزمن يسمح بكشف المستور إذ لم يعُد له تأثير على مُجريات الأحداث، وبالتالي فإنّ أحداً لا يستطيع إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء ولا يُمكن الاقتصاص من السياسيّين الذين أخطأوا الحساب، فقد أصبحوا تحت التراب.

وقد صدرت في بريطانيا والولايات المتّحدة خلال السنتَين الماضيتَين كُتبٌ ودراساتٌ عدّة تميط اللّثام عمّا أُخفي من تاريخ تلك المرحلة. وربّما كانت الإشارة الأولى قد أتت من كِتاب أندرو روبرتز Andrew Roberts “تشرتشل والسَّير مع القَدَر”(Churchill Walking with Destin) ؛ حيث كشف المؤلِّف عمّا كَتبه الملك جورج الخامس في مفكّرته في 2 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1939 يَصف فيها حواراً جرى بينه وبين ونستون تشرتشل حينما كان الأخير يشغل منصب وزير البحريّة. كَتب الملك في مفكّرته: ” في جوابه على سؤالي عمّا إذا لم يكُن علينا مُساعدة ألمانيا على وقف دخول البلشفيّة إلى ألمانيا، أجاب أنّ البلشفيّة والنازيّة أسوأ من بعضهما البعض وليس هناك ما يُمكن الاختيار بينهما”. ويُفسِّر روبرتز هذه المعلومة بأنّ الملك كان يفضّل هتلر مُقارَنةً بستالين وهو خيار قاومه تشرشل في مُحادثته مع المَلك. إلّا أنّ المؤرِّخ البريطاني يشير إلى أنّ الملك كان شديد التأييد لاتفاقيّة ميونيخ التي وُصفت بأنّها إتّفاقيّة التنازل أمام النازيّة (والتي سنفسّرها بعد قليل) ولم يقبل بفكرة استلام تشرشل رئاسة الوزارة إلّا في العام 1940. لم يكُن المَلك، الذي كان مجرّد رمزٍ سياديّ، وحيداً في نظرته تلك حيث إنّ الطبقة العليا في بريطانيا بوجه خاصّ، اعتبرت أنّ النازيّة ليست مجرّد حاجز مُفيد ضدّ الشيوعيّة والخيار الأقلّ سوءاً فحسب، لكنّها كانت تمثّل أيضاً نَوعاً من البريق الألماني القوميّ الضروريّ في تلك المرحلة وإن كان غير مُستحَبّ لدى البعض.

كذلك صدر أخيراً كِتابان آخران يتحدّثان حول الموضوع نفسه: الأوّل، بقلم تيم بوفاريTim Bouverie بعنوان، “الاسترضاء: تشامبرلين، وهتلر” (Appeasement:Chamberlain,Hitler) و”تشرشل والطريق إلى الحرب” ( Churchill and the Road to War). أمّا الثاني فهو بقلم بي إي كاكوت P.E.Caquet بعنوان “جرس الخيانة: اتّفاقيّة ميونيخ في 1938 في تشيكوسلوفيا” (Bell of Treason: The 1938 Munich Agreement in Czecholovakia).

نستنتج من مُراجعة هذَين الكتابَين أنّ مسألة التقارُب بين لندن وألمانيا النازيّة بدأت بمُراجعة بريطانيا لسياستها بعد الحرب العالَميّة الأولى ومُعاهدة فرساي التي نتجت عنها، حيث فُرضت شروط قاسية جدّاً على ألمانيا. وفي بداية الثلاثينيّات صدرت دراساتٌ عدّة في العاصمة البريطانيّة تدعو إلى تعديل مُعاهدة فرساي وتخفيف العقوبات على برلين. أمّا صعود هتلر إلى السلطة، فقد اعتبره كثيرون في لندن أنّه جاء نتيجةً طبيعيّة للمظلوميّة السياسيّة والاقتصاديّة وربّما النفسيّة التي كان يشعر بها الألمان بعد الحرب العالَميّة الأولى. وقد أدّى ذلك إلى عقدة ذنب بريطانيّة تجاه الألمان لأنّ تخفيف الضغوط على ألمانيا لم يتمّ في وقتٍ مبكّر.

على الجانب الداخليّ، اعتمد حزب العمّال البريطاني في مؤتمره في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1933 سياسةَ نزْع السلاح والدعوة إلى الإضراب العامّ في حال لجأت الحكومة إلى الحرب. وقد لاقت هذه السياسة دعماً شعبيّاً كبيراً، بحيث اضطرّ ستانلي بولدوين، رئيس حزب المُحافظين، إلى مُجاراتها والوعد بعدم زيادة ميزانيّة الدفاع على الرّغم من تحذير تشرشل من الزيادة الكبيرة في تسليح ألمانيا. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1935، جرت انتخاباتٌ فاز فيها حزب المُحافظين بأغلبيّة مُريحة، إلّا أنّ رئيس الوزراء اختار السير مع التيّار الشعبي الرافض للحرب تحت معظم الظروف. لذلك طبّقت لندن عقوبات غير فعّالة على إيطاليا عندما غزت الأخيرة الحبشة في 1935 و1936. وعندما أصبح نيفيل تشامبرلين، الذي خلف بولدوين في حزب المُحافظين في أيّار (مايو) 1937 رئيساً للوزراء، فإنّه تابَعَ سياسة سَلفه السلميّة إلى حدّ أنّه أبلغ هتلر أنّ حكومته لا تُمانع في إجراء تعديلات في حدود دول شرق أوروبا مثل النمسا وتشيكوسلوفاكيا ودانزينغ (مدينة ومنطقة تحيط بالمدينة كانت تتكلّم الألمانيّة وتتمتّع بحُكمٍ ذاتيّ داخل بولندا وتُعرف اليوم بغدانسك) إذا ما تمَّت مثل هذه التعديلات “من دون اللّجوء إلى القوّة”. ولم يستطع المُعادون للفاشيّة، الذين كان أغلبهم ينتمي إلى حزب العمّال، القيام بخطوة حاسِمة أثناء الحرب الأهليّة الإسبانيّة في العام 1936 لأنّ حزب العمّال كان يُسيطر على 154 مقعداً في البرلمان مقابل 386 مقعداً للمُحافظين.

نجح هتلر في ضمّ النمسا إلى ألمانيا في آذار (مارس) 1938 بشكلٍ سلميّ ومؤيَّد من قِبَل النمساويّين، وبالتالي حُسمت هذه المسألة بسلام. لكنّ الخطوة التالية كانت مُطالَبة هتلر بمنطقة السوديت التي كانت منطقة جبليّة ناطقة بالألمانيّة تقع في تشيكوسلوفاكيا. وكانت سياسة بريطانيا (تدعمها في ذلك فرنسا) تعتمد في هذا الشأن على الضغط على تشيكوسلوفاكيا لا ألمانيا لحلّ هذه القضيّة من دون حرب. وعندما قام تشامبرلين بزيارة هتلر في ميونيخ، حيث أدّت المُفاوضات البريطانيّة- الألمانيّة إلى مُوافقة رئيس الوزراء البريطاني على تفاهُماتٍ سياسيّة تدعم عمليّاً ضمّ هتلر للسوديت، فإنّ هتلر اقتنصَ الفرصة وقام بضمّ تشيكوسلوفكيا بصورة بَدت غير متوقَّعة في لندن؛ ثمّ وقَّعت برلين النازيّة وموسكو السوفياتيّة مُعاهدة عدم اعتداء في 23 آب (أغسطس) 1939، حيث قضت بنودها السريّة باقتسام بولندا بين روسيا وألمانيا. عند هذه النقطة بدأت الأمور بالتحوّل وأَخذ تشرشل، الذي كان يُحذِّر منذ سنوات من سياسات ألمانيا الهتلريّة، يَكسب الأصدقاء في حزب المُحافظين وفي الرأي العامّ. وعندما بدأت آلة الحرب الألمانيّة تتحرّك نحو بولندا في الأوّل من أيلول (سبتمبر) 1939، لم يكُن من مفرّ: اعلنت لندن وباريس الحرب على برلين في الثالث من الشهر نفسه، وبدأت الحرب العالَميّة الثانية. وفي 22 حزيران (يونيو) 1941 شنَّت القوّات الألمانيّة هجوماً مُفاجئاً على روسيا السوفياتيّة، ما غيَّر خريطة التحالُفات بحيث أصبحت موسكو بعد فترة قصيرة إحدى دول الحُلفاء التي تضمّ بريطانيا والولايات المتّحدة والمُقاوَمة الفرنسيّة التي تُحارب دولَ المحور التي تضمّ ألمانيا وإيطاليا واليابان؛ ثمّ انقسمَ الحُلفاء بعد الحرب إلى مُعسكرَين: المُعسكر الشرقي بقيادة السوفيات، والمُعسكر الغربي بقيادة الولايات المتّحدة.

نخلص إلى الاستنتاج بأنّ هذه التحالُفات المتغيّرة كلّها كانت تعود إلى أسبابٍ عمليّة، سياسيّة وعسكريّة، ولم تكُن ذات طبيعة أيديولوجيّة تماماً مثلما كانت محاولةُ الحركةِ العربيّة التعاون مع ألمانيا النازيّة للتخلُّص من الاستعمار البريطاني والفرنسي والاستيطان الصهيوني. فلا العرب “القوميّون” كانوا يحفرون خنادق أيديولوجيّة بينهم وبين الآخرين ولا أوروبا “الديمقراطيّة” كانت تحفر مثل هذه الخنادق بينها وبين النازيّة أو البلشفيّة حيناً وتتحالَف مع أحدهما حيناً، بل إنّ ميزان القوى كان هو المُحدِّد لخيارات هذا الطرف أو ذاك.

***

 (*) كاتب ومؤرِّخ من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *