دولة مدنيّة أم دولة عَلمانيّة؟

Views: 501

د. مشير عون

(الثلاثاء12 تشرين الثاني 2019)

حين استخدم الفيلسوف الإنكليزيّ جون لوك (1632-1704) صفة المدنيّ ناسبًا إيّاها إلى الحكم في مقالتَيه الشهيرتين اللتين تناول فيهما مسائل الحكم، كان يردّ ردًّا مباشرًا على المفكّر السياسيّ الإنكليزيّ روبِرت فيلْمِر (1688-1653) الذي كان يناصر مبدأ الحكم الملكيّ المنبثق من الحاكميّة الإلهيّة. فأتت المدنيّة مقابل الإلهيّة. وعلاوةً على ذلك، كان لوك يخلط بين المجتمع المدنيّ والمجتمع السياسيّ خلطًا يُبيح للدولة أن تشرف مباشرةً على صون الملكيّة الفرديّة الخاصّة. غير أنّ الفكر السياسيّ المعاصر رفض هذا الخلط، وآثر مبدأ استقلال المجتمع المدنيّ عن الدولة، أي تمايز المدنيّات من السياسيّات. فالمجتمع المدنيّ غدا كيانًا مستقلًّا قائمًا في ذاته، يدبّر مصالحه من دون تدخّل سلطة الدولة. وهو يحدّ من سلطة الدولة السياسيّة لأنّه ينتظم انتظامًا ذاتيًّا من جرّاء توافق الأفراد الأحرار المتساوين على الوثوق بمنطق حفظ الحقوق والواجبات، بالاستناد إلى سلطان معيّتهم الإنسانيّة الفاعلة المنتجة. ومن ثمّ، فالمواطنون الذين يثقون بمقتضيات حرّيّاتهم الذاتيّة ويؤيّدون استقلال المجال المدنيّ لا يحتاجون إلى سلطة الدولة في تدبير شؤون مصالحهم السلميّة.

الفيلسوف الإنكليزيّ جون لوك

 

أقول هذا القول لأذكّر الجميع في لبنان بأنّ صفة المدنيّ المقترنة بالمجتمع لا يجوز أن ننسبها إلى صفة السياسيّ المقترنة بالدولة. أمّا المناداة بدولة مدنيّة في لبنان، فأعتبرها مسايرةً للّذين ما برحوا ينفرون من اصطلاح العَلمانيّة. والحال أنّ الدولة لا يمكن أن تكون مدنيّة، بل هي سياسيّة على وجه الإطلاق. الدولة جهازٌ إداريّ، تشريعيّ، تنفيذيّ، حكوميّ، قضائيّ، أمنيّ. أمّا الصفة التي تليق بالدولة أو بالحكم، فهي الملَكيّ أو الجمهوريّ أو الدستوريّ أو الاستبداديّ أو التيوقراطيّ الإلهيّ أو العَلمانيّ. أعتقد أنّ العَلمانيّة الهَنيّة هي الوصف الأنسب للحكم الذي أقترحه في لبنان من بعد أن تتطهّر النفوسُ والعقولُ من خبائث الطائفيّة. أعلم أنّ اصطلاح العَلمانيّة ليس من تراثنا الفكريّ الساميّ الشرقيّ العربيّ اللبنانيّ. ولكنّ اصطلاح المدنيّ ليس هو أيضًا من تراثنا. وكذلك الأمر في اصطلاحات فكريّة وسياسيّة شتّى نستخدمها اليوم في حياتنا اللبنانيّة. المسألة تتجاوز مجرّد الأمانة للتراث، وتستوجب مساءلة الذات اللبنانيّة الجماعيّة وقدرتها على الانتفاض والنهوض والتجديد. 

العَلمانيّة الهَنيّة ليست عقيدة إلحاديّة أو مجموعة من المضامين الفكريّة المنحرفة، بل هي اعتصامٌ رزينٌ بمقتضيات الحياد الفكريّ في مباني الحكم السياسيّ في لبنان. العَلمانيّة هَنيّةٌلأنّها تميّز في الإنسان اللبنانيّ مقامَ الفرد الشخصمن مقام الفرد المواطن، فتتيح للفرد الشخص أن يختبر، في صميم وجدانه وفي نطاق المجال الخاصّ، ما يحلو له من معتقدات إلهيّة غيبيّة أو إنسانيّة فلسفيّة، شرط أن يسلك في نطاق المجال العامّ مسلكالفرد المواطن المحايد في تدبير شؤون المدينة الإنسانيّة. العَلمانيّة هَنيّةٌ لأنّها تعزّز في المجتمع المدنيّ القيَم الإنسانيّة العليا، وتستلهم أفضل ما تنطوي عليه الاختباراتُ الإيمانيّة والفلسفيّة من رفعة وتألّق وبهاء. ولكنّها تصون في أجهزة الدولة السياسيّة أحكامَ شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وأحكامَ المواثيق المنبثقة منها.

المفكّر السياسيّ الإنكليزيّ روبِرت فيلْمِر

 

فإذا أراد اللبنانيّون أن ينشئوا دولة عَلمانيّة هَنيّة عصريّة، كان لا بدّ لهم من ترميم هويّة الإنسان اللبنانيّ الفرد الذي يقوم كيانُه على ذاتيّةحرّة منعتقة من كلّ قيد طائفيّ. وبذلك تضمن الدولة اللبنانيّة المساواة المطلقة بين اللبنانيّين بما هم أفرادٌ أحرارٌ مستقلّون بذاتيّتهم. أمّا هويّة الجماعات الطائفيّة اللبنانيّة، على تنوّع تراثاتها الغنيّة، فتضمنها حياديّةُ العَلمانيّة الهَنيّة التي تتيح لكلّ اختبار روحيّ أن يعبّر عن مضامين اختباره في نطاق المعيّة اللبنانيّة الواحدة من غير الاستئثار بالمجال العامّ. فاللبنانيّ يدخل في الدولة فردًا مواطنًا حرًّا من أيّ انتماء، ما خلا انتماءه الإنسانيّ الوطنيّ الواحد. واللبنانيّ عينه ينتمي، إنْ شاء، إلى جماعته المؤمنة فردًا شخصًا حرًّا منعتقًا من كلّ صفة سياسيّة أو امتياز نفوذيّ. وليس في ذلك أيّ انفصام في الشخصيّة لأنّ اللبنانيّين المسيحيّين والمسلمين والعَلمانيّين واللاأدريّين والملحدين لا يمكنهم أن يديروا شؤون القضاء والتربية والاقتصاد والسياسة الخارجيّة والخدمات الحياتيّة إلّا بمنطق تقنيّ علميّ موضوعيّ أضحى هو منطق الإدارة الكونيّة في جميع المجتمعات الإنسانيّة الراقية المعاصرة. ولا يُقنعني أحدٌ بأنّ إدارة المسيحيّ التقنيّة أفضل من إدارة المسلم التقنيّة أو إدارة العَلمانيّ التقنيّة. فإدارة المدينة الإنسانيّة تفرض مقتضياتها على الوعي الإنسانيّ الكونيّ فرضًا لا مهرب منه بمعزل عن التذوّقات الروحيّة التي تزدهر في وجدان الإنسان. شرطُ الشروط في هذه الحياديّة أن يَقبل اللبنانيّون كلُّهم مستلزمات الاستهداء بالخلفيّات الإنسانيّة الكونيّة الناظمة في شرعة حقوق الإنسان، وبالأحكام القانونيّة التي تنطوي عليها المواثيقُ الدوليّة المنبثقة منها. العَلمانيّة الهنيّة هي البديل الشامل المقنِع، فيما إلغاء الطائفيّة السياسيّة هو الدليل المقنَّع بخلفيّات طائفيّةمفضوحة. فالدولة إمّا أن تكون عَلمانيّة، وإمّا ألّا تكون على الإطلاق !

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *