كيف يكون المسؤول مستقلًّا سياسيًّا؟

Views: 467

د. مشير عون

(الخميس 14 تشرين الثاني 2019)

يحتدم النقاشُ اليوم في مسألة المستقلّين القادرين على الانضواء إلى الحكومة النزيهة المقتدرة المنشودة. ثلاثة مواقف تتنازع المشهد السياسيّ اللبنانيّ، ألا وهي موقف السلطة التي تُنكر مبدأ الاستقلال في هويّة المواطن اللبنانيّ، وموقف الشعب الثائر الذي ما برح يثق باستقلال كوكبة من الاختصاصيّين الأكْفاء الجديرين النزيهين، وموقف أحزاب المعارضة التي تعارض إنكار السلطة هذا، ولكنّها تتربّص بالشعب الثائر لكي تَدُسَّ مِن وسطه في الحكومة المقبلة مَن هم في الظاهر مستقلّون وفي الباطن مناصرون.

من الطبيعيّ أن يسعى كلُّ فريق إلى تعزيز وضعه التفاوضيّ في عمليّة تأليف الحكومة. غير أنّ التبصّر الدقيق في خلفيّات هذه المنازعة يدلّ على انحراف خطير في تصوّر مفهوم الفرد في قرائن الاجتماع اللبنانيّ. يبدو لي أنّ القائلين باستحالة الاستقلال السياسيّ في حقل إدارة الشأن العامّ إنّما يتصوّرون الإنسان اللبنانيّ محكومًا حكمًا مبرمًا بالانتماء القسريّ إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والحزب. لذلك يستحيل في نظرهم العثورُ على مواطنين لبنانيّين يرفضون منطق المبايعة العشائريّة، والمعاهدة الطائفيّة، والمواطأة المذهبيّة، والمناصرة الحزبيّة. في هذا الإصرار التعسّفيّ إبطالٌ لمقام الإنسان اللبنانيّ، الحرّ، الواعي، المسؤول، القادر على تأييد الحقّ في كلّ فعل إنسانيّ تاريخيّ بمعزل عن أصوله ومصادره ومآتيه وبيئاته. 

غريبٌ القولُ باستحالة الاستقلال في الشأن الإداريّ المحض. فالناس في معظمهم يعتقدون أنّ الحقيقة هي كلّها في جانبٍ، والضلال في جانبٍ آخر. ذلك بأنّ من صفات الإنسان المسؤول المستقلّ سياسيًّا أن يَزن الأمور بميزان الموضوعيّة والتجرّد، وأن يقيس الأفعال بمقياس التروّي والفطنة، وأن يختبر تعقّدات الواقع في مختبر المعاينة العلميّة، والتحليل الجامع المانع، والاستنتاج العادل. من خطايا اللبنانيّين أنّهم يعاينون الشرّ، كلَّ الشرّ، ويندّدون بهمحصورًا في محورٍ أو تكتّلٍ أو عقيدةٍ أو تصوّرٍ أو فكرةٍ أو نزعةٍ؛ ويستجلون الخير، كلَّ الخير، متجسّدًا في منقلب آخر، فيمتدحون الخير ومَن يظنّون فيهم خيرًا دون سواهم. والحال أنّ الواقع الإنسانيّ هو في صلبه مسرحُ الانعطاب الأبلغ، وموئلُ الالتباس الأعظم، وموضعُ التراوح والتردّد والتنازع والتذبذب. فلا يجوز الحكم على هذا الواقع إلّا بالفطنة والرزانة والتروّي والإنصاف والحسّ التضامنيّ الأخلاقيّ الرفيع.

وعليه، فإنّ رفض مبدإ الاستقلال يعني أنّ العقل السياسيّ اللبنانيّ لا يؤمن بوجود أناس عقلاء، نزهاء، ودعاء، مقتدرين علمًا ومعرفةً وإقدامًا، يجرؤون على افتضاح الشرّ أنّى انتشبت آثامُه، ويبادرون إلى امتداح الخير حتّى عند ألدّ المناوئين خصومةً. 

من صفات المستقلّين الذين يأمل الشعبُ اللبنانيّ الثائر أن يضطلعوا بمسؤوليّة الحكم في هذه الفترة الانتقاليّة أنّهم لن يُخضعوا حُكمهم لمبايعتهم المتقدّمة على فعلهم السياسيّ. الاستقلال في الشأن السياسيّ يعني أوّلًا الحكم على مسائل الإدارة بمعزل عن الانتماء. ويعني ثانيًا تجريم الشرّ ولئن ارتُكِب في أسرة المسؤول وحلقته القريبة ومستشاريهومساعديه، وامتداح الخير ولئن تحقَّق في معسكر الخصوم. ويعني ثالثًا الاستنارة الجريئة بأنوار الأبعدين قبل الأقربين، وبآراء المختلفين قبل المتشابهين. ويعني رابعًا الابتكار الفذّ في تدبير شؤون المعيّة الإنسانيّة اللبنانيّة على غير ما اعتاده اللبنانيّون في مسلك الطبقة السياسيّة المطبِقة على أنفاسهم منذ عقود. 

يبدو لي أيضًا أنّ رفض مبدإ الاستقلال يعني أنّ العقل السياسيّ اللبنانيّ يتصوّر السياسة على غير ما يتصوّرها الفكرُ السياسيّ السليم. في عرف الطبقة الحاكمة السياسةُ منبتٌ للنفوذ، وحرثٌ للاستثمار، وحصنٌ للمنعة الفرديّة والتأبّد في السلطة. أمّا السياسة، في معناها الفلسفيّ المستقلّ، فهي تدبير شؤون المدينة الإنسانيّة بحسب المقتضيات الدستوريّة والقانونيّة والإداريّة والتقنيّة الرشيدة.لا شكّ في أنّ المستقلّين في السياسة قد تُغريهم هم أيضًاإغواءاتُ المال والجاه والاستكبار. غير أنّ خطر الخطيئة لا يُلغي نيّة الصدق في الفعل الإنسانيّ. في جميع الأحوال، لا بدّ للشعب الثائر من أن يحكم على مسلك المستقلّين في الحكومة المزمع إنشاؤها منذ الأشهر الثلاثة الأولى.

يُربكني إصرارُ السلطة على التمسّك بحكومةٍ متضاربة الألوان تكون لها فيها اليدُ الطولى. أفما آن الأوان للاستجابة لمطالب الشعب اللبنانيّ الذي يصبو إلى تغييرٍ مرحليّ في الإدارة السياسيّة التقنيّة ؟ فإذا كان تغييرُ الذهنيّات والبنى والأنظمة والأمزجة والاقتناعات والتصوّرات والرؤى في الاجتماع اللبنانيّ يستلزم سنواتٍ طويلة من التوعية والتربية والتهذيب والتنشئة والتمكين، أفلا يجدر الشروعُ في تغيير حكوميّ ممكن ومفيد ؟ فالمستقلّون في السياسة لن يخربوا البلد، ولن يقتلوا الناس، ولن يسرقوا الخزينة، ولن يتواطأوا على السيادة، ولن يُعدِموا الأحزاب السياسيّة. جلُّ مبتغاهم أن يدبّروا تدبيرًا سليمًا، نزيهًا، حكيمًا، صائبًا، فعّالًا، شؤون المعيّة اللبنانيّة المختنقة.

السلطة تسترهب الحكومة المحايدة لأسباب ثلاثة: إمّا لأنّها لا تثق بمبدإ الاستقلال السياسيّ في شخصيّة المسؤول الإداريّ؛ وإمّا لأنّها تخاف افتضاح الفساد الناخر في ميادين الإدارة السياسيّة العامّة منذ عقود؛ وإمّا لأنّها تعتقد أنّ الحكومة المحايدة سوف تتآمر على لبنان وعلى عناصر القوّة والمنعة والسيادة الوطنيّة فيه. 

يقيني أنّ المستقلّين النزيهين المقتدرين سيحافظون على الوديعة اللبنانيّة على أفضل ما تكون المحافظة لأنّ هدفهم ليس السلطة، بل الإنقاذ الحكيم والخدمة المجرّدة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *