يوسف مارون وجوهر العُمْقِ الجمالي

Views: 1145

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)

 الشَّاعرُ نَبْضُ حياةٍ، ولن يموت الشَّاعرُ، حقَّاً، إلا إذ مات في شعره هذا النَّبض؛ والدكتور يوسف مارون،الذي غادر عالمنا قبل شهرين من اليوم، شاعرٌ ذو نبضٍ حياتيٍّ ممعنٍ في قوَّته، عنيف في تدفُّقه؛ إلى درجة أنَّ فيهِ ما يمنح حياةً إلى كثيرٍ من مواتِ عيشِ النَّاسِ، ويُعطي ألقاً لكثيرٍ من أمورِ وجود النَّاسِ، إذا ما أَحْسَنَ مُتَلَقِّي هذا الشِّعر، استدراج ما يتلقَّاه،بمنهج تفاعله هو معه، الى عيشِالوجودِ حيويَّةَ شِعْرٍ!

يُشْرِقُ يوسف مارون، عبر أعماله الشِّعريَّةِ الأربعة،”نداء البعيد“، “مجامر الشَّوق“، “هديل الذَّاكرة“، “رفيف الوجدان“، بريشةِ تعبيرٍ تنبثق من ألوانها عراقة خبرة لغويَّة ممعنة في صفائها، وكذلك بعمقٍ وجدانيٍّ يُلامس رحاب الصُّوفيَّةِ في إيمانيَّةِ غوصِ تجريدها للواقع المعيش. ولذا، فاللغة لا تبقى،مع يوسف مارون،  في سجن أصوليَّتها الفولاذي، بل تتجلَّى أصيلةً بعفويَّتها وتجدُّدها العضويّ؛ ولا الواقع يبقى بشاعريَّته، كذلك، رازحاً في قيود مباشرته المُحْبِطَةِ للشِّعر.

الشاعر يوسف مارون

 

ينطلق مارون من الحبِّ، وما فيه من عِشقٍ؛ يعيشه، معايناً ومعانياً، ليصل إلى جماليَّةٍ لا يرى فيها مارون سوى جوهرٍ ينتظم مفهومه للشِّعر، إن لم ينتظم جميع مجالات إيمانه بالحياة الإنسانيَّةِ والوجوديَّة.

الحُبُّ إكسيرُ الوجودِ ودواؤهُ

  فيهِ الحياةُ  البعثُ يقظةُ نائم
 روح العناقيد-46
إنِّي أهيمُ وفي حياتي عاشِقاً

  فالعِشْقُ إيماني ونورُ تَحَرُّري
روح العناقيد- 70

وإن كان مِنْ سَعْيٍّ ما، لدى مُتلقِّي يوسف مارون، لمعرفة ماهيَّة هذا الحب؛ فماهيته تضحيَّةٌ:

فأجبتها الحُبُّ تضحيةٌ

  وفِدىً لِحُسْنٍ في مدى العُمْرِ
روح العناقيد- 52

بيد أنَّها ليست، على الإطلاق، تضحيَّة عبثيَّة؛ يزول وجودها بفعلها المؤلم والقاسي على من يقوم بها؛ بل هي تضحيةٌ مُحْيِيَةٌ، عند مارون، لوجودٍ ثَرٍ، هو جوهرُ الوجود الحقيقي للشَّاعر ولما يتضوَّعُ به هذا الوجود من فيوضات الشِّعر:

أقتاتُ من أَلَمي في كُلِّ سانحةٍ

وكيفَ أهربُ مِنْ وَجدي ومِن قَدَري

قد صارَ جسمي مِنَ الأرزاءِ مُرْتَزِحاً

  تمضي سِراعاً وقرصُ الشَّمس يكتمِلُ

أحيا الحياةَ وفي أحضانِها ثَمِلُ

حَسْبي بِشَمسي وفي أضوائها القُبَلُ
روح العناقيد- 54-55

يتأكَّد هذا التَّوجهُ الجمالي للشِّعر، عند يوسف مارون، عبر جوهر الحُبِّ، عند يوسف مارون؛ إذ يقول:

سِرُّ التَّصابي جَذوةٌ رَقَدَتْ

  فيعُمقِ روحي مرُّها إبرُ
روح العناقيد- 25

فيكون عيش الحبِّ، معاينةً ومعاناةً، مصدر الشِّعر وحياة الشَّاعِرِ برمَّتها:

وسَكَبْتُ آهاتي على شرخ الصِّبا

  ومِن الدُّموعِ تنافرتْ أَجفاني
روح العناقيد- 21

إنَّ هذا الجوهر الجماليَّ، المنبثق من مفهومٍ يقارب الأعماق الصوفيَّة المستشرفة لآفاق سامية للوجود تنهض على المعاناة، يشكِّل أساس نظرة يوسف مارون إلى الحبِّ. ولعلَّ هذا الجوهر الجماليُّهو ما يشكِّلُ، عند مارون،  منطلقَ الشِّعرِ وعبقَ كيانه؛ وهو ما يُعطي ريشةَ يوسف مارون في الشِّعر، حبر يراعها ومقصد فاعليَّتها. 

ولتبقَ آياتُ الجمالِ فضيلةً

  عصماءَ رمزَ الوحي والإيمانِ
روح العناقيد- 32

وإذا ما كانَ ثمَّةَ استكراهٍ أو عَجَبٍ مُنْكِرٍ، عند البعض، أن يكون الألم درباً مفضيةُ إلى جوهر جماليَّةِ الحبِّ عند يوسف مارون؛ فمارون، الإنسان والشَّاعر، لا يرى ضيراً في هذا الألم، المؤدِّي إلى فضيلة جمال العيش عبر هذه الجَوْهَرِيَّةِ لمفهومٍ فاعلِيَّةٍ للشِّعر.

لا تنفري، أنا عاشقٌ دَنِفٌ

  خَلَسَتْ يداهُ البدرَ مِن حَرَمِ
روح العناقيد- 42

بهذه الجوهريَّةَ للجمال الشِّعريِّ، متمثِّلة عند يوسف مارون، بالحبِّ وما فيهِ من عِشْقٍ، يقدِّم مارون وحدة مفهوميَّةً عضويةً يتكامل عبرها العيش الإنساني مع البَوْحِ الشِّعريِّ؛ ويضحي معها، هذا المفهوم للجمال بالحبِّ، النَّهج الأساس لكلِّ ما هو عيش:

فالحُسنُ لا يُغني الفتى عن مرتقًى

  لكنَّه المرقاةُ كُلَّ أوانِ
روح العناقيد- 31

ويختصرُ يوسف مارون، هذا التَّطبيق العملي بين العيش والشِّعر، بقوله:

الحبُّ فنٌّ وعطاء

الحُبُّ لحنٌ وضياء

الحُبُّ سِحرٌ ونِداء

الحُبُّ داءٌ ودواء

وهو ذَوْبٌ وفناء

وهو سناءٌ مِن سناء

روحٌ يهيمُ بالمُنى

ونِعمةٌ .. صوتُ السَّماء

مجامر الشَّوق- 43

مشيراً إلى ما يحققه الشِّعرُ، بهذه الجوهريَّة للجمال:

أَغبُطُ اللَّون على جمرِ الوِصالِ

في رِحابِ النَّهدِ في دفءِ الجمالِ

يُشْبِعُ الطَّرفَ بأعطافِ الحبيبِ

يَخْلُقُ الحُبَّ سعيراً من لهيبِ

ينسجُ الشِّعرَ وميضاً مِنْ خيالِ

ليتَ طرْفي نظرة مِنْ ذلك اللَّونِ العجيبِ

يا له ثوباً من السِّحرِ الغريبِ

مجامر الشَّوق- 62

       لا يمكن، عبر هذه الإشارة الموجزة، إلاَّ أن يرى المتلقِّي، في ما يقدِّمه يراعُ يوسف مارون، نظرةً عضويَّةً لمفهوم الفاعليَّةِ الجماليَّةِ للشِّعر؛ وهي نظرةٌ تنبثقُ من عمقِ إحساسِ الشِّاعرِ ورهافةِ وعيه النَّفسي؛ كما لا يمكن تجاهلَ ما تحمله، هذه النَّظرةُ، من نهجٍ صوفيٍّ ارتقائيٍّ للتَّعامل مع العيش الإنسانيِّ بجماليَّةٍ إبداعيَّةٍ راقية.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *