يوميات بلا أيام

Views: 391

“يوميات بلا أيام “كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول منه على حلقات. في ما يلي الحلقة السابعة.

 

د. جوزف صايغ

 في كتابه الأخير، الصادر هذا الشهر مترجماً إلى الفرنسية عن دار “لوسوي” بعنوان “أوروبا في الجحيم1914-1949″، يتناول إيان كرشاو، المؤرخ البريطاني الشهير، ما سُمّي “إبادة اليهود”، فيرى أن ملامح المشكلة برزت، جغرافياً، في منطقة واقعة بين هتلر وستالين، هي أوروبا الوسطى واوروبا الشرقية، وذلك بسبب انضمام اليهود، انضماماً شاملاً قاطعاً، إلى البولشفية في الحرب العالمية الأولى، مما هيّأ رومانيا والمَجَرَ وبولونيا لتصبح مركزاً للزلازل في الكارثة المزمعة. يضيف المؤلف، في حديث صحفي لجريدة “لوموند”، بتاريخ 4/11/2016، أن مؤلّفاته عن هتلر([1]) أتاحت تجاوُز الانقسام بين الذين ينسبون اضطهاد اليهود إلى “قصد” مسبق عند الفوهرر يسميهم “القصدويون” intentionnalistes، وبين “الوظائفيين” fonctionnalistes، الذين يَعزون ذلك الاضطهاد إلى عوامل “شطط في الدولة، والى الوضع العالمي العام”.

كرشاو هو أحد كبار المتخصّصين في الحقبة النازية، ومن القائلين بأن الظروف تخلق القائد. هذا المفهوم يجعله يترجّح في تناقضات تتعلق بتقييمه لشخصية الفوهرر([2]). يقول: “غالباً ما تنطوي البُنى على دور الفرد. ولكن، في الأزمات الطارئة، قد يستطيع إنسان بمفرده أن يقوم بدوريتجاوزه”. ويُضيف:”إنّ ماركس لا يخالف هذا الرأي في تأويله المادي للتاريخ”.

‏*‏

هل يمكن اعتبار انتخاب الرئيس دونالد ترامب، بعد انفصال انكلترا عن الاتحاد الأوروبي، وبانتظار نتائج انتخابات النمسا آخر هذا الشهر([3])، تباشيرَ تغيُّر ايجابيٍّ بالنسبة إلى أوروبا؟ أي بداية اتجاهٍ يميني، وتحوّلٍ عن العولمة؟ الأمل صغير، والرجاء كبير.

كلّما عطست أميركا، دخل العالم المستشفيات. فبعد القيلولة التي انكفأت فيها الولايات المتحدة على نفسها مع الرئيس أوباما، – وكانت نتيجتها الأرابيع العربية، وحروبَ سوريا، وازدهار المصارف، وارتفاع الأسعار، وفرض الرئيس بوتين نفسه في السياسة العالمية (احتلال سوريا إلى أمَدٍ غير محدود، كما جاء، حرفياً، في البند العاشر والاخير من الاتفاقية الروسية – السورية) – وبعدما سهّلت سيطرةُ اليسار صعودَ الرأسمالية العالمية تحت شعار العولمة… بعد جميع ذلك، عسى يكون الرئيس ترامب فاتحة خير…

لعلّ أسوأ من يُعامل الفقراء هم الفقراء، إذا اغتنوا.

*

تجاوز الأنسَنَة“،Transhumanisme، للفيلوسف الفرنسـي جول فيرّي، هو عملية مَسْح يقوم بها وزير التربية السابق للتقنيات المستقبلية الرامية إلى تحسين الإنسان بتغييره بيولوجيًّا. يعتبر أصحاب هذا التفكير أن المرض، وآلام الشيخوخة، والعاهات الوراثية… حتى الموت نفسه هي أشياء غير محتومة ويمكن تفاديها، وذلك بواسطة “تنظيف” الكائن البشري من الشوائب الطبيعية، واستبدال ما تَلَف، أو عُطِب، من أعضائه بأعضاء جديدة سليمة… بل تزويده، أو تزييده (l’augmenter) بطاقات فكرية وبدنيّة اصطناعيّة متفوّقة بواسطة الكومبيوتر، والروبوت، والذكاء الاصطناعي… الخ.

قد تكون نهاية الإنسان نجاحَه في الحلول محلَّ الله. ليس كُفراً، لا مجال لأي كفر في ذلك، بل لأن ذكاء الإنسان قد ينطوي على جرثومته المضادة.

‏*‏

هذا المساء، 14/ 12/  2016، أطفأ برج إيفل أنواره تصافحاً مع مدينة حَلَب. تضامناً، أم حزناً، أم تنديداً، أم إدانة…؟

حَلَب، ستالينغراد العرب.

حَلَب، همبور ودِرسْد الشرق.

حَلَب، شهيدة جميع المدن الشُّهداء.

*

درجتُ، منذ الحداثة، ومرةً واحدة في السنة، على حضور صلاة جنّاز المسيح في الكنيسة. مساء الجمعة الحزينة، أو العظيمة، كانت والدتي تصطحبني إلى كنيسة القديس نقولا للروم الأرثوذكس “لسماع” الجنّاز، الذي يقيمه المطران نيفون سابا. أذكر هيبتَهُ السنيَّة، ووجهَه المشـرق، وصوتَهُ الجميل… وكان يجتذبني، ضمناً، مع رفيقَيْ فتوّتي: ألفرد النخْل ورفيق سَخَط، وجودُ بعض الفتيات، اللواتي كانت النظرة منهنّ تضارع قدّاساً حَبْروياً.

مساء أمس([4])، وبإلحاح من أحد الصديقين، رفيق سخط، (ألفرد توفّي في كاراكاس)، حَضَرْتُ الجنّاز في كنيسة سان جوليان لوبوڤر، للروم الكاثوليك، وهي كنيسة من القرن الثاني عشر، يخلع عليها القِدَمُ، وعُمُدها الضخمةُ، حاملة القناطر المتشابكة، المتعاقدة بشكلٍ غوطيٍّ تظنه سابقاً للغوطيّة… يخلع عليها أجواء هيبة ومهابة هما من غير هذا الزمن.

سماع القداس على الطقس البيزنطي أيقظ في نفسي مشاعر هاجعة منذ مطلع الشباب. أعاد إليَّ مشاعر نسيتُها: القدّاس قبيل المساء؛ الكنيسة المزيّنة زينةً حزينةً للمناسبة. رائحة البخور. اللُّغة اليونانية… ثمّ شيء من الدّفء، يشبه العطف الذي كنت أنعم به في كَنَف الأهل والرفاق. كان يجب أن أفقد جميع ذلك لكي أستعيده، اليوم، في دفء هذه الكنيسة الهَرِمة. كان يجب أن أنسى لكي أتذكّر وأستعيد الحنين الشّاجي، عطفَ الأم، وحرارة الرّفاق، وأستذكر تلك الفتوّة المُهرولة، عن غير وَعْيٍ، إلى احتضان العالم، واكتشاف الحبّ، والرقّة النِّسويَّة، وعبادة المتعبِّدين. استعدتُ ذكرياتي في تلك الجوقة من تلاميذ “الشرقية”، التي كان قد ألّفها ودرّبها الأستاذ جان شويري لخدمة القدّاس في الأعياد والمناسبات. كان يلقّننا الصلاة باليونانية دون أن نفقه معناها. لكنّ إيقاع تلك الجُمَل الغريبة، المَدْسوسة في الجُمَل العربية، كان يخلب آذاننا. ما زلتُ أحفظ مقاطع منها إلى اليوم. إستعدتُها أمس بالذاكرة عند سماعها. وفي طريق عودتي إلى المنزل، تساءلتُ في الدِّين، والإيمان، وهذه الجموع الغفيرة المحتشدة للمشاركة في الصلاة، وذلك القمقم الذهبي في يد الكاهن يرشّ منه ماء الورد على الحضور المغمور بالبخور… بدا لي أن الدِّين أعظمُ بُنية ابتناها العقل البشري. ولعلّ أعظم ما جاء به السيّد المسيح أنه مَنَحَ “ذلك” الوَهْمَ للبشر. الوهم بأنهم خالدون. بأن ثمّة من يرعاهم في السماء، والأهم أنه وطّد في نفوسهم الإيمان بذلك. “إيمانُكِ خلَّصَكِ”، ما فتئ يردّد. وتساءلتُ: هذا الرجل، هذا الإنسان، الذي يُسمَّى المسيح، أو المَشيح، لقد وُلِدَ يهودياً، ومات يهودياً. وجاء، على ما يقول، “ليُكْمل، لا لينقُض…”. وكان حاخاماً يُعلِّم في الهيكل، ويُنهي عظاته بقوله: “إذهبوا إلى أورشليم”… لقد عاش ومات يهودياً، فمن صنع المسيحية إذن؟ لم يقل:اذهبوا إلى روما، بل إلى أورشليم. “الروح القدس” هو الذي قال بالتبشير… إذن؟ نحن، ما نحن؟ مسيحيّو أيِّ مسيح؟ أم نحن يهودُ الحركة التصحيحية التي أطلقها يسوع المَشيح؟ أسئلة، أسئلة تتوارد…

***

 

([1]) Ian Kershaw، كتابه عن هتلر، جزءان، 2789 صفحة، دار فلاماريون، باريس، الجزء الأول، 1999، الجزء الثاني 2000.

([2]) Hitler, Essai sur le charisma en politique, éd. Gallimar, Falio histoire, Paris, 1995.

([3]) تشرين ثانٍ 2016.

([4]) 25 آذار 2016.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *