يحيي الطاهر عبدالله بين الواقع والخرافة

Views: 813

هدى حجاجي أحمد 

إن القضية التي أزعم لها مكانا أساسيا في كل أعمال يحي الطاهر عبدالله هي على وجه الدقة العلاقة الجدلية الميتاواقعية وبين الواقع والخرافة، وليس بالصدفة على الإطلاق أن أول قصة منشورة له تعالج هذه العلاقة بالتحديد ومن الواضح أن ذلك ليس إلا إيماءة وبذرة وما كان من الممكن أن نتبينها إلا من الموقع الذي بلغته رحلة الكاتب، كان من المشروع جدا أن نرى هذه “الحدوتة” كلها نكتة اجتماعية وطريفة فليس في علاج الكاتب هنا في قصة (الطحونة) على سطح القصة ما يوحي كثيرا بتطوره اللاحق، اللغة بل الاداة التعبيرية كلها مازالت متأثرة جدا بالأسلوب الواقعي الذي عرفناه في ركام قصص وحواديت الخمسينات الواقعية والاهتمام حسن النية بلا شك وهناك روح من السخرية العطوف بالناس ونبرة التهكم الخفيف بهم، والسياق يسير في مجراه الخارجي إلا من إطلالة للحوار الداخلي القصيرة هنا أو هناك وليس هذا كله من غريب على التكنيك الواقعي . 

ومع “ليل الشتاء ” يخطو يحي الطاهر عبدالله أولى خطواته في عالمه الخاص المنفرد، من ناحية ويجرب يده بأساليب التجديد في فنية القصة القصيرة من ناحية أخرى . 

 

وقد حدد قسمات هذا العالم الخاص المتميز .. قسمات أخذت تزداد جلاء وبهاء وتستنير وتتخذ حدودها القاطعة عبر رحلة الكاتب كلها، حتى روايته التي اشتهرت وأصبحت فيلما سينمائيا ” الطوق والإسورة ” في هذا العالم سوف نجد دائما مستويين هناك العلاقات الخارجية المتشابكة والمعقدة التي يخططها الكاتب بنوع من الواقع بل الوجد لفرط الإتقان في التقصي والمتابعة، على المستوى الأول تلك العلاقات الأسرية الشكلية المتقاطعة والمتواصلة بحرص الكاتب دائما على أن يرسم لنا شجرة العائلة التي تدور قصته في فلكها، لابد أن يذكرنا بأصل العائلة ونسبها الجد وأسلافه، وأبنائه وأحفاده، الأعمام والأخوال، والأصهار وقصص الزواج والطلاق والاملاك بالفدان والقيراط والإرث بحصصه وتحدر أنصبته هذا هيكل شكلي كامل للعلاقات الشرعية محدد ومقطوع به ومحكوم به بقوة العرف والقانون، كأنما يوشك الكاتب ان يضع ” حجة شرعية ” أو عقدا في محكمة أو ” شباك الورثة” المعروف ثم يرسم الكاتب في ضربات قصيرة وقاطعة الموضع الاجتماعي لابطاله والموقع المادي لهم ليس العالم هنا خارجيا فقط بل أكثر من ذلك بكثير . إنه صيغة ثابتة، وتجريدات جافة كاملة الجفاف هو سطوة ” القانون ” القديم المسلم بها دون أدني محاولة لإنكارها , بل ليس هناك أدني نزعة للمساطة فيها دع عنك الاحتجاج أو الاعتراض والتمرد . أعمدة رقيقة جدا لفرط تعريتها وصلبة جدا لا فكاك منها .. مرة بعد مرة يضع الكاتب هذا البناء الشفاف المحكم المسدود حول عالمه يدور به يحكم إغلاقه حوله دون ثغرة يمكن أن تهب منها نسمة هواء يسد كل منافذه فلا راد لحكمه، ولكن في شفافية تامة ووضوح تام هذه أحكام القانون الاجتماعي تطبق على عالمه من الخارج حيث الشرع والعرف وعلاقات النسب والمواضعات الاجتماعية وحدود الأشياء الجامدة قيم مسلم بها تكاد تكون بدهية ضاغطة حتى الاختناق . 

 

ولكن هذا هو الطرف الأول فقط من تفاعل جدلي شديد الخصوبة ففي داخل هذا العالم وطول الوقت وبانصهار تلقائي شديد الحرارة سوف نجد العلاقة الحميمة _ البيولوجية _ بين الأم والابن بين الجد والحفيدة .. بين الأخ والأخت بين الأب والبنت .. بين الولد وخاله .. بين المرأة وزوجها الذي طلقها أو قتل في سكة بيتها بين الشخصية والأرض والماء ونار الفرن وأغصان الشجرة، العلاقة الحسية بل العضوية الساخنة، ومنذ قصته الثانية ” ليل الشتاء ” نجد الأم التي تزيح الغطاء عن رأس ابنها وتقبله وتحس في صميمها شهوره التسعة بين الضلوع ورضاع الصدر وفطام الحمص المعجون بالزبد , وعبر الرحلة كلها سوف يفاجئنا هذا الحنو الحسي بل العرامة الحسية والمأساة الحسية في داخل العلاقات البنائية المفروضة من الخارج . 

وفي “الوارث” و”جبل الشاي الأخضر” و “الدف والصندوق” و “الجد حسن” سوف نجد الأجسام العارية والانغماس في أحضان الأمهات ودفن الرأس بين أفخاذهن _ كأنما نحن على وشك الفسق بالمحارم والأثداء المنفجرة أمام الأم في حرارة تفتح المراهقة وهواء الفرن الساخن وانعكاس نيرانه على الافخاذ المكشوفة والشبق الحيواني للطفلة النثي أما أخيها الصغير وانهمار الدم الأسود في أمواج النيل وطقوس الوفاء بالحاجات الجسدية جميعا بين البنات وأبائهن وأجدادهن وهذه الرقة الفاجعة التي تربط الأسلاف الذرية وأخوة الدم أمام سطوة نزعات الحس التي لا تقاوم قسوة القهر الداخلي والخارجي معا، وعذوبة المازوشية في آن واحد، في التحام الأفخاذ والأصلاب وطرادها، في تعانقها وتنافرها.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *