ساره أبي كنعان…صوتٌ وليست صدًى

Views: 1923

  د. جورج شبلي

حينَ يصدقُ القلبُ والحسُّ والعقل، تصبحُ الموهبةُ جذوةً تُلهبُ ما تَمَسُّ من أوتارِ الإعجاب. فالصّدقُ أساسُ الإبداعِ، ومَظهرٌ ثابتٌ من مظاهرِ النّجاح، لا يأتيهِ إلّا القويُّ الذي يوزَنُ له رأي.

ساره أبي كنعان، الشابةُ في مسيرةِ التألّقِ التّمثيلي، خرجَت من قمقمِ القوالبِ الجامدة، وقدَّمَت اختباراً نَوعياً بسطَ سلطانَه على نَسيجِ الأداءِ، فتحوّلَ معها ياقوتةً يَقبلُها الذَّوقُ على ارتياح، ويمتدُّ على مقاطعِها ظلُّ الموهبة الرّاقي. ولمّا كان النَّقدُ لا يُثني على ما لا يرتاحُ إليه، فهو، مع ساره، أُخِذَ بجَمالِ الحقيقةِ التي ترفضُ زخرفةَ المساحيق.

محاولةُ ساره في صُلبِ التّمثيلِ، ما جَفَّت قرائحُها، وليسَت طَوافاً على الأمكنةِ الخَرِبة، لأنّ ساره وفَّرَت لها مُدرَكاتِ الجهازِ المَعرفيِّ، ونوعيّةَ الفَهمِ في نظامِ الفنّ، بينَ الدِّرايةِ والمَهارة. ولأنّ هذه المَوهوبةَ قدَّرَت ما قالَه “أرسطو” من أنَّ الصَّنعةَ لا تكفي، لم تقف على الحيادِ في مَعمولِ الإبداع، فشرارةُ الأحاسيسِ وطقوسُ الدَّهشةِ، جعلَت ساره نزيلةَ الفنِّ الخالص. 

كَرجاتُ ساره في التّمثيل، لا تسكنُ إلّا في صرخاتِ القلوب، وتُقرَأُ بوجوهٍ مختلفة، فتارةً تستدعيكَ الى الحَدس، وتارةً الى العَصف المُرَوَّس. إنّ أدوارَها ليسَت كالفَخّارِ لتَستَجديَ الشَّمس، وليسَت من قَصَب لتستَعطفَ الرّيح، إنّها، مع ساره، رسائلُ أَقربُ الى الشَّعائر، وإقناعٌ بجودةِ الأداءِ، والإقناعُ فَنّ. من هنا، يَكمنُ تَجاوزُ الممثّلِ أمامَ محكمةِ الإجماعِ الشَّعبيّ، لا سيّما إذا كان جسدُ الإبداعِ مُتَمَفصِلٌ على قامتِه.

ساره لا تسيرُ تحتَ رحمةِ الصّدفة، ولا تَلوي لمشيئةِ الحظّ، فالحياةُ معها خياراتٌ وقرارات، أسَّسَت لِخَطٍّ في التَّمثيلِ، وظيفتُه الوصولُ الى أَكملِ المقصوداتِ الإدائيّة. وهذا المُرتَكَزُ مُتعِبٌ، يقضي تَلَمُّسَ طريقِ التفوّق، وهل كان الإقتباسُ إلّا انفِكاكاً عن الكَونِ وتَطاوُلاً عليه، ليُبدِعَ الواحدُ على راحتِهِ ؟؟

ساره بَصيرةٌ في رَسمِ ملامحِ الشّخصيّاتِ، بقوّةِ المَلَكَةِ وسِعةِ الإطّلاعِ، والتَأَصُّلِ في القواعدِ، الى جانبِ الذَّوقِ والقريحةِ، وتلك الخَواصُّ تشكّلُ الفرقَ بين المُحَلِّقِ والعاثِر. من هنا، يُنتَبَهُ الى ساره من دونِ خَدش، وتُثيرُ براعتُها فينا الوعيَ الى أنّ التّمثيلَ ليسَ، أبداً، تَقريرياً، فليسَت وظيفتُه الإِبلاغَ، ليس إلّا. لذلك، تُحَصِّلُ ساره، عن حَقّ، شهادةَ الإمتيازِ في مُطابقةِ الإِدهاش، فالعلاقةُ العُضويّةُ بينهما تُشبهُ تماماً الرّابِطَ بين المَركبِ والماء.

إنّ مسألةَ التّمثيلِ، بالرَّغمِ من شروطِها الصّارمة، والتي تحدِّدُ المِنهاجَ والحَدّ، هي ملجاٌ ساعةَ تقسو الحياةُ، ويُمَسُّ الواقعُ بالتّشويه. لكنّ هذا الفنَّ لا يرتقي الى هذا المقام من تلقاءِ نفسِه، بل من خلالِ فنّانين قادِرين بارِعينَ في حِرَفيَّتِهم، يتناسلُ معهم النّجاح، وساره في عدادهم. فهي تتمتَّعُ بالفطرةِ الماهِرة، لكنّها لم تبلغ بها سريعاً نجاحَها، فداسَتْ شَوكاً وصعوباتٍ وعقبات، وواجهَتِ المُؤذيَ، لكنّها لم تَتَلَمَّسْ سوى الإتّجاهِ الذي لا تجدُ فيه إلّا المياهَ العَذبة. لقد وَعَتِ المصاعبَ التي اصطدمَت بها، ورسمَت في ذهنِها حلولاً لها، وواجهَتها بصلابةٍ وعَزمٍ ونَزعةٍ الى التفوّق، فبلغَتِ القمّة. 

إنّ الإستجاباتِ الحَرَكيّةَ، والقدرةَ على اتّخاذِ المبادراتِ في تركيزٍ موصوف، هي الفاصِلُ بين الفنّانِ الإصطناعيِّ والفنّانِ الأَصيل. وهذه بالذّات، حيثيّةُ التَّماهي بين الفنّانةِ ساره والإقتباس، ونتيجةُ التَّرابطِ بينهما، بدونِ اجتهاد. والتّمثيلُ هو عشيرةُ ساره، تَبَوَّأت فيها، وباستِحقاقٍ، وزنَها الحقيقيَّ، من دونِ غَطرسةٍ واستِعلاءٍ وادِّعاء، فلا بدَّ بالتالي من التّواضع.

ساره المثَقَّفة، أنشَأَت مع مُتَلَقّيها، وشائِجَ مرموقة، ونقلَت إليهم بالعَدوى، حالتَها أو حالاتِها، فتَبَنَّوها، وتسامَت في أعيُنِهم، حَظوَةً مردُّها التَّقديرُ لا المُسانَدة. وكأنّي بِساره، تحدِّدُ أنَّ قيمةَ الأداءِ نسبيّةٌ، تُقَدَّرُ تِبعاً لإمكانيّةِ المُؤَدّي على شَدِّ أذواقِ المُتَلَقّينَ، أيّاً كانَ لونُهم، ومهما تَنَوَّعَ السِّياقُ وتعدَّدَتِ الشخصيّات. لذلك، ليسَت ساره مُجرَّدَ قاطِنةٍ في هيكلِ التّمثيل، أو مُتَسَلِّقَةً بِساطاً سحريّاً يوصِلُها الى حيثُ تريدُ أن تَرسُوَ، ولم تنشرْ على هيئتِها أجنجةَ الطَّواويس، فكَثُرَ عُشّاقُها.

في معابرِ الشّاشة، ساره أبي كنعان، صاحبةُ القلبِ الصّادقِ، والإحساسِ المُرهَف، طَبَعَتْها غِيرةٌ على التَّمثيلِ حينَ نشأَت بين يَدَيه، فزُفَّتْ الى دارِه، بأَصالةِ موهبتِها، ولولا المواهبُ، لَعَظُمَت محنةُ الفنون. ساره المُرهَفَةُ التي أُعطِيَت بَداآتُ الرقَّة، استطاعَت أن تُجَمِّدَ سحرَها على عرشِ العيونِ والأَذواق، فاستطاعَ حِلمُها أن يُطلِعَ الشَّمس.    

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *