البستانيّ مؤسِّسًا ورئيسًا للجامعة اللبنانيّة*

Views: 955

د. دياب يونس

ليس فردًا عَلَمًا فؤادُ أَفرامُ البستانيُّ، بل نَسْلٌ من عباقرة، بل سِرْبٌ من نوابغَ.

ليس زهرةً فاحَ في سماء لبنانَ والعرب شذاها أبو هندٍ ومارينا، بل حقلٌ مُخْضَوضِرٌ، بل روضُ رياحينَ، بل مروجٌ من سُنْدُسٍ تقولُها جَنّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ.

ليسَ أُحاديَّ المنبعِ والنواةِ والجِذْعِ أبو يَحْيى وحارثَ ومُنْذِرٍ وعَدِيٍّ وغَياث، المتحدِّرُ من غساسنةٍ يَمانيّين مسيحيّين، والمعتصِمُ أهلوه في سفح جبل المكْمل حيثُ اشتهروا بمهنة الزراعة حتّى خُصَّ كَرْمُهم المفَنَّنُ الثِّمار في بطائحِ بْقَرْقاشا المنبسطة في جبّة بشرّي، باسم “البستان” إطلاقًا، ثمَّ نُسِبوا إلى بستانهم، وكانوا البساتنةَ، وكانوا آلَ البستانيّ الَّذين كادت إليهم، بعدَ أنْ حَلُّوا في دير القمر والدبّيّه وبكشتين، تَنْتَسِبُ الآدابُ العربيّة لغةً وتاريخًا وشعرًا ونقدًا.

ليس أُحاديَّ الوَتَرِ والثَّمَرِ واللغةِ، ولا أُحاديَّ العين والجناح والقافية والصوت مَنْ كان أَجدادُه يُوردون الراياتِ بِيْضًا فَيُصْدِرونَهنَّ “حُمْرًا قد رَوِينا“؛ مَنْ كان أَسلافُه الذين نَزَلوا في ذُرى لبنانَ مَهَرَةً في استحلاب الصخر قَطْرًا، وتحويل الوعْر سهلاً، وإنباتِ التراب زهورًا تَمور ألوانًا، وزروعًا تَموجُ صُنوفًا، وغِلالاً تَتَشَهَّاها العيونُ والأنوفُ قبلَ حُلوقٍ وبُطون؛ مَنْ كان جَدُّه أَفرام من مشاهير الفرسان، وأبوه جِرْجِس يوزباشيًّا من ضبّاط الأمير بشير؛ مَنْ بَرَعَ في الرياضيّات والعلوم، وتَلْمَذَ للأب هنري لامنس (Henri LAMMENS) اليسوعيّ، وأَدارَ مجلّة “المشرق“، ودَرَّسَ الآدابَ العربيّة والعالميّة نحوًا من ستّين عامًا، وأَصدَرَ سبعًا وخمسين من “الروائع“، وأَوْثَقَ العُرى باليسوعيّين والمستشرقين وعَرَّبَ من نتاجهم، وَوَضَعَ بكالوريا خاصّة بلبنان، وزاوَلَ الصحافَة، وأنشأَ المعاهدَ، وأَسَّسَ الرابطاتِ والجمعيّاتِ العلميّةَ والأدبيّة، وشاركَ في المؤتمرات الدَّوليّة، وقَدَّمَ الأحاديثَ الأدبيّة والنقديّة والتاريخيّة في الإذاعات والتلفزات اللبنانيّة والعربيّة والأوروبّيّة، وأَلقى زهاءَ أَلفَي محاضرةٍ في لبنان وخارجه، وعَبّرَ عن خواطره اللبنانيّة في مجلَّدات ضخمة، وحَمَلَ دكتوراه شرف، ثلاثًا، في الآداب والحقوق، وكَتَبَ في التاريخ والآثار والجغرافيا، وفي المسيحيّة والإسلام والميثولوجيا، وفي المجتمع العربيّ والإسلاميّ عبرَ العصور، وفي العلوم الموسوعيّة واللغويّة، وفي الآداب العربيّة قديمها والحديث، وفي القَصَص والنقد، وفي الثقافة العامّة والحضارة والأدب المقارَن؛ مَنْ استقامت له شخصيّةٌ تختصر شخصيّاتٍ، واستوتْ له هُوِّيَّةٌ تتمثَّلُ فيها هُوِّيّاتٌ فتقمَّصَ شعوبًا وأقوامًا، واستوعبَ ثقافاتٍ وحضارات، واقتاتَ بكلِّ شُوْرَةٍ وقفير، فأَضْحى نموذجَ المثقَّف اللبنانيّ والعربيّ والإنسانيّ، وباتَ بالكائن الأُسطوريّ ذي الرؤوس الألفِ أَشْبَهَ، وصارَ مَنْ صِرْنا نعرفه أنّه فؤاد أفرام البستانيّ.

د. فؤاد أفرام البستانيّ

 

***

هذا الجاحظُ الثاقبُ بصيرةً، الحرُّ تفكيرًا، الفَكِهُ حديثًا، الماهرُ تصويرًا، الباهرُ دُعابةً وجِدًّا،

هذا الأَصْمَعيُّ المحدِّثُ في كلِّ نادرة ونادر، وإِمامُ اللغويّين الأكابر،

هذا الفيروزاباديّ الإمامُ في تأليف كلِّ قاموسٍ محيط وقابوسٍ وسيط،

هذا هؤلاءِ المونتسكيو (MONTESQUIEU)، والروسُّو (ROUSSEAU)، والڤولتير (VOLTAIRE)، والدالمبير (D’ALEMBERT)، والديدرو (DIDEROT)، والجوكور (JAUCOURT) وقد وقَفَوا عبقريّاتِهم والقرائحَ لتدبيج الموسوعة الفرنسيّة في القرن الثامنَ عشرَ.

هذا العلاّمةُ الذي أرادَ لبنانَ مركزًا مُشِعًّا نحوَ ما يُحيطُ به من دائرة البلاد العربيّة فدائرةِ الشرق والعالم بأسره،

هذا المحيطُ بكلّ فنّ وعلم ومطلب،

هذا الحُزْمَةُ الضوئيّة،

هذا الفذُّ الذي حاوَلْنا، عاجزين، أن نُعيدَ تركيبَ موشور عبقريّته المتعدِّدةِ الألوان، المُبَرْقَشةِ الأصباغ،

لَكَمْ كان يَسْهُلُ عليه أن يؤلِّفَ الموسوعات، فَنَظَمَ دُرَرَه “دائرةَ معارف“.

***

هذا المعلِّمُ الألمعيُّ،

هذا الثقيفُ،

أليفُ الجامعات العريقات،

قرينُ الأساتذة المشاهير،

جامعُ العلوم والآداب والثقافات والأنوار،

الخبيرُ بالتعليم العالي،

البصيرُ بما تنهضُ عليه الأوطانُ، وتصبو إليه الأجيالُ،

المدافعُ عن لبنانَ هُوِّيَّةً وقوميَّةً وقيمةً ودورًا ورسالةً،

نَدَبَهُ لبنانُ، في خمسينيّات القرن الماضي، إلى تأسيس الجامعة اللبنانيّة ورئاستها فَلَبَّى نداءَ الوطن غيورًا.

د. دياب يونس

 

***

غداةَ الاستقلال، ارتفعت أصواتٌ تنادي بإنشاء جامعة وطنيّة تؤكِّدُ استقلالَ لبنان وتعزِّزه، فيما كانت راياتُ مؤسَّساتٍ للتعليم العالي تخفقُ في سماء لبنان، وهي: الجامعة الأميركيّة، جامعة القدّيس يوسف، كلّيّة بيروت الجامعيّة، كلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى، كلّيّة الشرق الأوسط، الأكّاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة (الألبا)، مدرسة الآداب العليا، مركز الدراسات والأبحاث في الرياضيّات والفيزياء.

وُلِدَت الجامعةُ اللبنانيّة أَشلاءَ، وبالتقسيط، وبعمليّات قسريّة وقيصرية، وعلى أثر نضالات طالبية وشعبيّة تُوِّجَت بتظاهرات شباط 1951 حيث اعتُقِلَ عشراتُ الطلاّب، واستُشْهدَ أحدُ مناضلي الحركة الطالبيّة في الجامعة اليسوعيّة.

تنفيسًا للاحتقان، صَدَرَ مرسومُ إنشاء معهد للإحصاء ودار المعلّمين العليا لإعداد أساتذة التعليم الثانويّ وكادرات الموظّفين الرسميّين. وقد شكَّلَتْ دارُ المعلّمين ومعهدُ الإحصاء نواةَ ما عُرِفَ لاحقًا باسم الجامعة اللبنانيّة، وعُهِدَ إلى الدكتور خليل الجرّ بإدارتها.

بتاريخ 26 شباط 1953، وفي عهد الرئيس كميل شمعون، صَدَرَ المرسوم رقم 25 الذي استحدثَ معهدَ الإدارة والمال، وأَبْدَلَ اسمَ “دار المعلّمين العليا” باسم “معهد المعلّمين العالي”، وتمَّ تعيين الدكتور فؤاد أفرام البستاني رئيسًا للجامعة اللبنانيّة.

أمَّا تأسيس الجامعة اللبنانيّة الفعليّ فَتَمَّ في العام 1959، في عهد الرئيس فؤاد شهاب، بإنشاء كلِّيَّتَي العلوم والآداب لتخريج ما تحتاجُ إليه البلادُ من أساتذة ثانويّين، ثم إنشاء معهد العلوم الاجتماعيّة.

وفي العام نفسه (1959)، وبعد إضرابات واعتصامات وافتراش أرض الأونيسكو تضامنًا مع طلاّب الحقوق في الأكّاديميّة اللبنانيّة (الأَلبا)، صَدَرَ مرسوم تأسيس كلّيّة الحقوق، وبذلك أصبح للجامعة كيانٌ يتمثَّلُ بثلاث كلّيّات ومعهدين.

وتطلَّعَ أساتذةُ الجامعة وطلاّبُها إلى وجوب إنشاء كلّيّات تطبيقيّة، وزيادة رواتب الأساتذة، واستصدار قانون تنظيم الجامعة، وتشييد بناء جامعيّ موحِّد، واستعملوا، تحقيقًا لأهدافهم تلك، وسيلتَهم الوحيدة: المطالبة، فالتحرُّك، فالإضراب، فالتظاهر مع توقُّع المصادمة مع قوى الأمن ولجوء السلطة إلى إغلاق الجامعة.

كما أنّه، بفضل إضراب العام 1968 الشهير، صَدَرَ المرسوم القاضي بإعطاء أفراد الهيئة التعليميّة المنتمين إلى الملاك الدائم علاوةً بمعدل 50% من رواتبهم.

وبتاريخ 23 شباط 1970، صَدَرَ القانون رقم 6/70 المعروف باسم “قانون التفرّغ” الذي يكرِّسُ المكاسبَ الآنفةَ الذكر، ويدفع بالجامعة إلى مراتبَ أعلى تسمح لها بأن تتبوَّأَ مكانتَها بين الجامعات العريقة والراقية.

هكذا كانت ولادةُ الجامعة اللبنانيّة تَتِمُّ فصولاً ومشاهدَ داميةً على قارعات طُرُقِ عاصمة لبنانَ وشوارعها ومستشفياتها ومخافرها.

وإنّنا، هنا، لَمُحاولون أن نُضيئَ بالنقاط التالية:

أولاً – كانت إطلالةُ الجامعةِ الناشئةِ خَجولاً حيّية إذ نسمع البيانَ الوزاريّ لحكومة الرئيس عبدالله اليافي التي نالت على أساسه الثقةَ بتاريخ 19/6/1951 يقول:

“إنّ الحكومة ستسير قُدُمًا في إنشاء الجامعة اللبنانيّة مبتدئةً بإعداد الفروع غير المتوفِّرة في الجامعتين القائمتين في العاصمة” (المقصود الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية). كما نسمع الرئيس المؤسّس فؤاد أفرام البستاني يقول عام 1955: “تجتهد الجامعة اللبنانيّة في إعداد طلاّبها لنيل الشهادات في مختلف فروع الآداب والعلم والفن والإحصاء والإدارة والمال، وهدفها الأوّل تزويد المدارس الثانويّة بالأساتذة الأكفاء ومختلف وزارات الدولة بالموظفين الخبراء”[1].

ثانيًا –       قوبلَ إنشاء الجامعة اللبنانيّة بكثير من العداء أو الاستخفاف أو الازدراء: سياسيّون لم يَروا فيها سوى مزرعةٍ أو دائرةِ توظيف.

آخرون لم يجدوا لها دورًا أو رسالة واعتبروها غيرَ واجبة الوجود.

آخرون شكّكوا في قدرتها على منافسة جامعتين جبّارتين عريقتين تنتميان إلى دولتين عُظْمَيَين، وتنبّأوا لها بالانهيار والاستسلام.

أوساطٌ دينيّةٌ وطائفيّة واجتماعيّة وثقافيّة حَطَّتْ من قَدْرها وازدرت القيِّمين عليها والمنتمين إليها.

ثالثًا – جِيءَ بفؤاد أفرام البستاني رئيسًا، فكان أكثَرَ من رئيس. شعرَ الرجلُ أنّ الجامعة اللبنانيّة تتحدَّر من صُلْبه وتمتزج بلحمه ودمه وعظمه وعزمه ورسالته فَقَبِلَ التحدّي، وأَقْبَلَ على العمل الدؤوب والدرس العميق والتخطيط الشامل.

بَرْهَنَ الرئيسُ المؤسِّسُ، على الدَّوام، على ترفّعه عن صَخَب الشهوات، وعلى تعاليه على ضجيج الأهواء، وعلى طمأنينته في الأعاصير الهوج، معتبرًا أنّ بدءَ الملحمة كلمةٌ، وأوَّلَ الهَرَمِ حَجَرٌ، وأصلَ المعزوفة نَغَمٌ. فالمهمُّ، لديه، أن نبدأ. ومتى بَدَأْنا وَصَلْنا.

لقد رَفَضَ الرئيسُ المؤسِّس أن تكون الجامعة اللبنانيّة في خدمة طبقة اجتماعيّة معيّنة أو طائفة دون غيرها، كما رَفَضَ أن تخضع لأية إيديولوجيّة أو مذهبيّة، وبغى المحافظةَ على حريّة الحوار والإعلام واحترام القوانين والأعراف الأكّاديميّة.

رابعًا- عَلَّقَ الرئيسُ المؤسِّسُ أهميّةً خاصّة على تنوُّع أساتذة الجامعة جذورًا ومنابتَ ومدارسَ وطروحاتٍ فأَتى بالأَحْسَنِ والأَعْلَمِ والأَشْجَعِ والأَجْسَرِ والأَشْهَرِ والأَغْيَر.

وكم يطيبُ لي، تنويهًا بمعلّمي ورئيسي المؤسِّس الرئيس وتكريًما لهؤلاءِ الأعلام الذين تلمذتُ على معظمهم أن أذكر منهم من تحضُرُني أسماؤهم: بطرس البستاني، أسد رستم، كمال يوسف الحاج، أنطوان غطاس كرم، صبحي الصالح، سعيد البستاني، جبّور عبد النور، ألبير فرحات، إدمون نعيم، فؤاد رزق، إدمون ربّاط، أمين الحافظ، بطرس ديب، عاطف النقيب، يوسف جبران، صبحي المحمصاني، پيار صفا، خليل جريج، عزمي رَجَب، إدوار عيد، زهدي يكن، جان فرّان (Jean FERRAND)، حسن عواضه، غالب شاهين، بديع تقي الدين، حسن مشرّفية…

وإنْ نَسِيَ طلاّبُ الجامعة اللبنانيّة، لا يَنْسَوا كيف تَشَبَّثَ الرئيسُ المؤسِّس في اختيار أساتذتها من أعلامٍ نابغين ولو أَعْوَزَتْهم أحيانًا، الشهاداتُ الجامعيّة العليا مُؤْثِرًا إيّاهم على بعض حامليها المطوَّقين بها، فأَتى، بتكريمٍ كبير وإجلالٍ مَهيب، بشبيهَيْهِ، الأَلمعيَّين الإثنَين سعيد عقل وعبدالله العلايلي، فاعْلَوْلَى بقدومهما كُرْسِيُّ الأُستاذيّة وراحَ يُغَرِّدُ وَيَتَفَرَّدُ.

خامسًا- لا يَسَعُ المتكلِّمَ على الجامعة اللبنانيّة أَلاَّ يتحدّثَ عن الحركة الطالبيّة فيها، فالأُولى وليدةُ الثانية، وتطوُّرُ الأُولى كان رهنَ كفاح الثانية وإحدى ثمارها.

الحركة الطالبيّة في لبنان حركاتٌ. كلٌّ منها نشأت في ظروف. ولكلٍّ مرتكزاتها وقضاياها. فكأنّ لبنانَ التنوّع والتعدّد، لبنانَ التمزُّق والتشلُّع، لبنانَ الممرّ والمقرّ، لبنانَ الأديان والطوائف والمذاهب والمناطق، لبنانَ المختبر ورأس الحربة، لبنانَ الحرّيّات والغوغائيّة، لبنانَ الرفاهيّة والحرمان، لبنانَ الشرق والغرب، لبنانَ واشنطن وموسكو وحواضر الثقافة كباريس، لبنانَ الأبراج العاجيّة والأزقّة، لبنانَ المتخَمين والجائعين، لبنانَ المتشبِّثَ بالهُوِّيّة واللاهثَ وراءَ الغير، لبنانَ الأحزاب ذات الأبعاد اللبنانيّة والعربيّة والأمميّة، لبنانَ المتوجِّسَ خوفًا من العروبة ودعواتِ الوحدة وأدواتِها ولبنانَ منبرها ومساحتها وحامل رايتها، لبنانَ المدرك خطرَ إسرائيل المحذِّرَ من نيّاتها ومخطّطاتها واعتداءاتها ولبنانَ الجاهلَ والخاملَ والخائف، لبنانَ الواحدَ واللبنانات الشتّى، لبنانَ الجمرة ولبنانَ التَّمْرة… انعكسَ كلُّه في الحركة الطالبيّة التي كانت له مرآةً تكسَّرت وتشظَّت يومَ تكسَّرَ لبنانُ وتشظّى.

هذه كانت البؤرَ التي كَوَّنَتْ رَحِمَ الحركات الطالبيّة في جديدها وتقليدها، في غَثِّها وسمينها، في حلوِها ومرِّها، في يمينها ويسارها، في ما هو جامعيّ حينًا، وفي ما هو وراءَ الجامعيِّ وبَعْدَ الجامعيّ أحيانًا.

وعندما وَلَجْتُ الجامعةَ اللبنانيّة في العام 1963 طالبًا في كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة والإداريّة، وفي كلِّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، وفي معهد المعلّمين العالي، لم أكُنْ من هؤلاءِ ولا من أولئك.

وسرعانَ ما التقيتُ قبضةً من الطلاّب وَعَتْ نَفْسَها وواقعَها، وَعَصَفَ بها العنفوانُ والغيرةُ على مجتمعها، وأَدْرَكَتْ مسؤوليّاتِها تجاهَ الأجيال الجديدة، فَأَلَّفْنا معًا ما زالت الجامعةُ اللبنانية، بل الجامعاتُ في لبنان، تذكرُ اسمَه وكفاحَه ألا وهو “تيّار الوعي” الذي أخَذَ يُثبتُ في كلّ محنة وتجربة أنْ لا داخلَ يمحورُه، ولا خارجَ يؤَدْلجُه، ولا حزبَ يحميه، ولا سفارةَ ترعاه، ولا زعيمَ يحرِّكه، ولا طائفةَ تدّعيه، ولا ثريَّ يموّلُه، ولا يخشى سلطةً أو عقابًا.

كان “تيّار الوعي” في خضمِّ الجامعة اللبنانيّة في غمرة حركات وأحزاب وأزمات تتمخّضُ وتتحرَّكُ في واحدة من أخصبِ المراحل وأخطرها على الصّعيدين اللبنانيّ والإقليمي.

وعندما انْتُخِبْتُ رئيسًا لرابطة معهد المعلّمين العالي قُدْتُ “تيّار الوعي” إلى سياسة النضال والمواجهة كما نحو المطارحات الفكريّة والندوات والنقاشات الحادّة والهادئة، وجَمَعَتْنا بمن كنّا نتحفّظُ عليهم ونتوجَّسُ من طروحاتهم رؤى ومشاريعُ نضال وقضايا عربيّة وفلسطينيّة.

أمّا الرئيس المؤسِّس فكانَ مطمئنًّا إلى هذه التوجُّهات، مشجِّعًا أطرافَ العائلة اللبنانيّة والجامعيّة على التلاقي والتفاهم وعَقْدِ الخناصر وشَبْك الأيدي وإيجاد مساحات مشتركة تَستقطبُ طلاّبَ الجامعة الذين اعتبرَهم، جميعًا، في منزلة الأبناء والأحبّاء، مردِّدًا عبارةً باتت لازمةً : يجب أن نجعلَ الجامعةَ اللبنانيّةَ الخميرَ في عجين هذا الوطن.

سادسًا- يَعتبرُ المراقبون والدارسون وطلاّبُ تلك الفترة الزمنيّة العصيبة والخصيبة، والقياديّون منهم بخاصّة أنّ كلّيّات الجامعة اللبنانيّة جميعًا أبصرت النُّورَ تَتْرى على إيقاع حركات التشنّج والانقباض وأوجاع الولادة: كلُّ طَلْقٍ ناريٍّ يُطْلَقُ على تظاهرة طلاّبيّة في شوارعِ بيروت كان يُعَجِّلُ طَلْقَ ولادة القرار الذي إليه يسعى الطلاّبُ بقلوبهم وأجسادهم ودمائهم والعقول.

       وهذا ما كان يجعلُ الرئيسَ فؤاد أفرام البستاني، لدى كلِّ إنجازٍ يُحَقِّقُه للجامعة اللبنانيّة أو يحقِّقُه لها أساتذتُها وطلاّبُها، يضحكُ في سرِّه ويقول في عَلَنِهِ في ما يُشْبِهُ المُسَارَّةَ : كلُّ تطويرٍ يَجيءُ بإضراب. كلُّ ولادةٍ تَتِمُّ بتمزيق ونزيف. لا جامعة دون كفاح. وكان يضيف: لا بُدَّ دونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ”.

سابعًا- أَحرزت الجامعةُ اللبنانيّة في النصف الثاني من ستِّينيَّات القرن الماضي تقدّمًا علميًّا باهرًا صَنَّفَها في مصافّ “الجامعتين القديمتين” (اليسوعيّة والأميركيّة)، وسرعانَ ما بَلَغَتْ عصرَها الذهبيَّ في مختلف كلِّيَّاتها والمعاهد، مثلما عَرَفَتْ، في نهاية العام 1967 القانون الرقم 75/67 القاضي بتنظيمها.

***

وإذْ كانت تباشيرُ القانون رقم 6/70 تُؤْتي أُكُلَها، كان فؤادُ أَفرامُ البستانيُّ قريرَ العين، مطمئنَّ الخاطر، يجمعُ في الأول من تموز 1970، أوراقَه المؤرَّقة ويودِّعُ الجامعةَ التي جَعَلَها فِلْذَةً من فؤاده، وأَحَدَ طموحات عمره المثقَلِ بالأنوار والمآثر، متأهِّبًا للمضيِّ إلى أعمالٍ مجيدة وجديدة في سبيل لبنان وفي سبيل الثقافة في لبنان.

***

قبلَ أن يكون للبنانَ جامعةٌ لها خِرِّيجوها، كان لبنانُ جامعةً تخرَّجَ منها على مدى الأجيال أساطينُ في كلِّ علمٍ وفنّ حَرَثوا كرومَ اللغة العربيّة، وذادوا عن حياضها، وصانوا للعرب كرامةً وحفِظوا لتراثهم عهودًا، ونَشَرَ البساتنةُ منهم في بساتينِ العرب والعجم كلَّ طَيِّبِ عَرْفٍ، وكلَّ شَهِيِّ طعام.

في ذلك الزمن الطيِّب، زمنِ الطيِّبات، زمنِ الطيِّبين، كان لبنانُ ضنينًا بجنسيّته فَلَمْ يُبِحْها، وبأرضه فَلَمْ يطرحْها بالمزاد، وبسيادته فَلَمْ تعبَثْ بها جيوشٌ ولا شبكاتُ مخابرات، وبنسائه والزَّوجات فَلَمْ يَجْعَلْهُنَّ أشياءَ أو تُحَفًا تُتَهادى ولم يَزُفَّهُنَّ إلى ذوي العُقُلِ والكوفيّات زِفافَ الجواري والقِيان.

في ذلك الزمن الطيّب، زمنِ الطيّبات، زمنِ الطيِّبين، ما رأيتُ أستاذًا جامعيًّا، بَلْهَ رئيسَ جامعةٍ يَلْحَنُ في قول، أو يتعثَّرُ في قاعدة، أو يُخْطئُ في صَرْفٍ ونَحْوٍ، أو تُثارُ حولَ اسمه شبهاتٌ ولو واهناتٌ أو شكوكٌ ولو واهياتٌ، أو يوزِّعُ الشهاداتِ والعلاماتِ على أنصارٍ أو أهل دينار؛ في ذلك الزمن الطيِّب، زمنِ الطيّبات، زمنِ الطيِّبين، كان للبنانَ ما يقدِّمه لضيوفه الكبار، كان له أنْ يقدِّمَ لهم أَغْلى كنوزه والثمار، كان له أن تَمْنَحَ جامعتُه الوطنيّة دكتوراها الفخريَّةَ لمستحقِّين استثنائيّين فيسلِّمُ رئيسُها فؤاد أفرام البستاني ذو الطلَّة العالميّة شهاداتِ الشرف إلى أمبراطور إيران شاهنشاه محمّد رضا بهلوي، والملكِ محمّدٍ الخامس عاهلِ المغرب، والرئيسِ التونِسيّ الحبيب بو رقيبه، ورئيسِ السنغال ليوپولد سيزار سنڠور، وعاهلِ أثيوبية الأمبراطور هَيْلاسلاسيه.

فَيا سَقاكَ الله، يا زَمَنَ فؤاد  أفرام البستاني في جامعتنا الوطنيّة. ويا رَعاكم اللهُ!

***

*  في “احتفاليّة سنة فؤاد أفرام البستاني” التي أُقيمت في قاعة قصر الميناء – طرابلس البلديّ بتاريخ 8 نيسان 2010، بدعوة من جمعيّة أندية الليونز الدوليّة، المنطقة 351 – لبنان – الأردن – العراق.

[1]  فؤاد أفرام البستاني: “الجامعة في العالم العربي: نشأتها وتطورها”، مجلة الأبحاث، (ع 2، حزيران 1955) ص.ص 191-216.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *