قصة قصيرة… الجنازة

Views: 916

سامي معروف

 

كانَ جسدُه القويُّ مرتميًا فوق الكنَبَة، ويداهُ تتَدَلّيان على جَانبَيها شبه مَيِّتَتَين، شَعرُه مشَعَّث وربطة العُنق مبعثرَة على صدره.. وأمَّا عيناهُ فتُحَدِّقانِ في اللّاشَيْء.

وصَلَت سيَّارَةُ الحانوتيّ. نزَل الرّجالُ الأربعَة وحَملوا النَّعشَ إلى الرَّدهَةِ الفسيحَة، وحَطّوه في وسطِ البقعَة الصَّامتَة الخاليَة.. إلاّ منَ القاضِي وحدَه مُطرقًا رأسَه لا ينبُس ببنت شفَة. رفعوا الغطاءَ ثمَّ خرَجوا بهدوء.

لم يستطع أحدٌ من أهل البلدَة الصَّغيرة أن يُقنِعَ القاضي الخَمسينِيَّ نَمير بضرورةِ أن يكونَ هناك جنازَةٌ لائقَة ومجلِس عَزاء.. حيث بقيَ مصِرًّا، وبعنادٍ لم يَفهَمْه القريبُ والبعيد) !( على أن يدفنَ وحيدتَه المُهندسَة الشابَّة بنفسِه وبيَدَيهِ رافضًا إستقبالَ المُعَزِّين. لقد كانَ المصابُ عظيمًا، وأرادوا أن يُكرموا فقيدَتَهم الحَسناءَ الفاتنة بجنازَةٍ على قَدِّ ما كانت ترسمُ طموحاتُها لمُستقبَلِ البَلدَة.. وألَمِهِم العَميق في آنٍ معًا. بيدَ أنَّهم أذعَنوا في النّهاية لإرادةِ القاضي المَفجوع، ولاذوا بالصَّمت متَعَثِّرين بحَيرَةٍ عَقيمَةٍ وأسئلةٍ جَهيضَة.

شالَ القاضي بجَسَدِه عن الكنبَة.. ودَنا متثاقلًا من حافّة النَّعش. ثمَّ راحَ يتأمّلُ وجهَ الفتاة المُسَجَّاة كأنّها نائمَة.. أو هي تأخَّرَت في نومِها ذاتَ صباح وجاءَ ليوقظَها. وعبَرَت في خاطرِه الكسير وهو واقف عند النَّعش رحلةُ قطارِ شبابِها السَّريع، الذي لم ينطلق بعد من المَحطّةِ الأولى حتى وصلَ إلى النّهايَة. لقد استَنهَضَت ذاكرتُه نشاطَها فجأةً) ! (واستحضرَت صوتَ ابنتِه عاليًا، وفي هذه الرَّدهَة الفسيحَة بالذّات، وهي تروي أحلامَها ومشاريعَها لبَلدَةٍ ناميةٍ جميلةٍ واسعَة التّخوم، وتتعهّد لوالدِها بأنّها ستنفّذُ لمَبنَى البلديَّةِ تصميمًا حديثًا فاخرًا، وسوف تبني لأهلِ البلدَةِ مستوصفًا ومدرَسة ومركزًا تجاريًّا. وفي هذه الرَّدهَةِ أيضًا كان حفلُ تخرُّجِها الكبير، وكانت الفرحَةُ أقلَّ بكثيرٍ من الأحلامِ الصَّاخبَةِ في نفسِها. وفي هذه الرَّدهةِ الكئيبَةِ الخَرساءِ الآن كانت خطبَتُها إلى الطّبيبِ ابنِ سَعَادةِ النّائب، وكانَ المكانُ مليئًا بأعيانِ القرى المُجاورة. ولكنَّ الحادثةَ الإرهابيَّة الغامضَة في المدينة، وكما دائمًا، حوَّلَتِ النَصَّ الجَميلَ إلى مسوَّدَةٍ سرياليَّةٍ خَرقاء.

 

وعندما كان القاضي جاثيًا قربَ النَّعش، من بَعدِ ظُهر ذلك اليَوم، تُغازلُ عيناه الجثمانَ الملفوفَ بقماشٍ زَهريِّ اللّون، تبتسِمانِ حينًا وتَضحَكانِ أحيانًا، ولكنَّهما في النِّهايَةِ استسلمَتا للدّموع الثَخينَة، قطعَ عليه حَبلَ بُكاءَاتِه المُرَّة صَوتُ عامِل البَلدِيَّة:

– لقد جَهَّزنا الحفرَةَ يا ريّس.. والرَّفش والمِعول بجانبِها كما أمَرت. فتمتمَ القاضي:

– شكرًا لكم.

– هَل تأمرُ حَضرتُك بشيءٍ آخر؟ فأجابَ القاضي وجَبينُه على ساعدِه فوقَ النَّعش:

– لا.. شُكرًا.. يعطيك العافية.

– السَّمَاءُ تنذِرُ بالمَطَر يا ريّس!

– لا.. لن تمطِر.. إذهب.

خرَجَ العامل، وراحَ القاضي يَهذي: “لم تُمهلْها السَّماءُ لتُحقّقَ حُلمَها.. ولكنَّها ستُمهلُني أنا.. بالتّأكيد.. حتى أدفنَها وأدفِنَ أحلامَها معَها.. بَلى.. بَلى.. ستمهلنُي حتى أغطّيَها بالتّرَاب.. وستكون عروسَ المَقبرَة”.

وعند السَّاعةِ الرَّابعَة حمَلَ القاضي جُثمانَ الصَبيَّة من النَّعش، كما يَحملُ الطِّفلةَ على ساعدَيه، والجَسدُ مَشدودٌ متَخشِّب، وخرَجَ إلى الشّرفةِ يمشي ببُطء، وهبَطَ السُلّمَ الرُّخاميَّ الكَبير، واقتربَ من سيَّارتِه الرّاكنة قربَ حوض الزّهور في باحةِ الدّارَة. راحَ ينظرُ في وَجهِ ابنَتِهِ لدَقائق.. ثمَّ عدلَ عن فكرَتِه.. ومَشى نحوَ المُنعَطف عندَ التّمثالِ النِّصفيِّ لشَاعرٍ قديم في البَلدَة. جلسَ على المقعَدِ الحَجَريّ دقائقَ أخرى يتأمَّلُ وجَهَ مَيِّتِهِ، وسَحنتُه غارقَة في النَّشيجِ الصَّامت. ثمَّ نهضَ من جديد.. وحَملَ الجُثمانَ كما يحمل البائعُ دُميةَ العَرض عاموديًّا على صَدرِه، ومشى حتى أصبَحَ على قارعةِ الطّريقِ الرَّئيسِيِّ للبَلدَة، وراح يتقدَّمُ ببُطءٍ كأنَّه يمشي دربَ الجُلجُثَة حاملاً صَليبَه.. وهو يعلمُ يقينًا أنَّ العيونَ والقلوب تمشي معَه خطوَةً خطوَة بصَمت.. من وراءِ النّوافذِ والجُدرانِ والأزقَّة.

بدأت رَشَقاتُ المَطَرِ الخَفيفَة ترَطّبُ الطّريقَ الخاليَة أمامَه، ولكنَّ سرعةَ مشيِهِ بقيَت على حالِها. كانتِ السَّماءُ غائمَةً والقريَة كأنَّها مَهجورَة. رأى بطرف عَينِه ولدًا صغيرًا يخرجُ إلى الزّقاق بجانبِ الطّريق، فنادته أمُّه بصَوتٍ خافِتٍ وجَذبَته من يدِهِ إلى الدّاخل. وكانَ قادرًا أن يشعرَ بعَينِه وحَدسِهِ بالحُجُب والسِّتارات تنزاحُ وتغلَق على الشَّبابيك. وتسارَعَت زَخَّاتُ المَطَر.. وأرادَ أن يُسرعَ في خَطوِهِ.. فزلَقَتْ رجلُهُ ووَقعَ على ركبَتِهِ والجثّة فوقَ ركبتِهِ الأخرى.. فعادَ وحملَها على ساعدَيه أفقيًّا، ولم يجرُؤْ أحَد على الاقتراب. وعندَما وَصلَ إلى حدودِ منزلِ المُختار، وكانَ هذا الأخير واقفًا في بابِ بَيتِه، شعرَ بالتَّعَب، وأرادَ أن يستريحَ قليلاً تحتَ الشَّجَرة، فسنَدَ ظهرَه على جذعِها وأرخى الجثمانَ فوقَ صدرِه لدقائق، وأغمضَ عَينَيه ووجهُه نحوَ السَّماء. ثمَّ فتَحَهما ورأى المُختارَ يدنو منه ويقولُ له:

– دَعني أساعِدكَ قليلاً. فأجابَه القاضي:

– لا يا مختار عُدْ إلى بَيتِك.

ترَكه المختار، وعادَ وتابعَ تقدُّمَه نحوَ مَدفنِ العائلة. ولكنَّه سمِعَ فجأةً صوتَ وقع أقدامٍ قليلة خلفَه! ونَما الصَّوتُ وتكاثرَ العَدَد.. وقفَ في مكانِه.. وأدارَ ظهرَه فرأى جمهورًا قليلاً يمشي ورَاءَه. فقاسَهم بناظرَيه من اليَمين إلى الشّمال، وقال:

– أرجوكم.. عودوا إلى بيوتِكم.

فلم يحَرّكوا ساكنًا.. فصرَخَ بصَوتٍ عالٍ:

– هيّا.. ماذا تنتَظرون؟ ألَم تفهَموا بَعد؟ أريد أن أدفِنَ مَيِّتِي بهدوء.

وراحَ يحدّقُ في وجوهِهم حتى أرعَبَتهُم عَيناه الذّاويَتان. فتفرَّقَ الجَمع.

ثمَّ وصَلَ إلى المَقبرَةِ ذاتِ الأضرحَةِ الحَجَريَّةِ الفخمَةِ والكتابةِ الكلاسيكيَّة المزَخرَفة، وجالَ بناظرَيه باحثًا عن الحُفرَة، واقتربَ ووضَعَ الجثمانَ على حدَةٍ بلطف. خلعَ عنه سترتَه ونزَعَ ربطةَ العُنق.. وعندَما بدأ يشمّرُ عن ساعدَيه.. وقعَ على الأرضِ بجانبِ الحفرَةِ هامدًا كالجُثّةِ التي كانَ يحملُها! وهرَعَ المُختار ورئيسُ البَلديَّة والشُّرطيّ الذين كانوا يُشاهدونَ اللّحظَةَ الأخيرَة من الفصلِ الأخير في منزلٍ مُشرفٍ على المَقبرَة، ولم يسمَحوا لأحدٍ بالدّخول إليها.

وراحَ أهلُ البلدَةِ، في الأيّامِ التاليَة، يتَحدَّثون عن وفاةِ القاضي بالسَّكتَةِ القلبيَّة، حزنًا وقهرًا على وَحيدَتِه المهَندسَة الفاتنَة.

بيدَ أنَّ سِرَّ مَوتِ القاضي نَمير تِلكَ الميتَة.. لا يعرفُه سوى المُختار ورئيسِ البلديَّة والشُّرطيّ وحدَهم، وقد دفنوا هذا السِرَّ معَ الجثَّتَين.. وإلى الأبَد! حتى لا يخسر المختار ثقةَ النّاس والرَّئيس حَملتَه الانتِخابيَّة والشُّرطيُّ حياتَه معلّقًا على المِشنقَة.

أيّار 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *