مِنْ ثِقْلِ الزَّمن إلى زمنٍ بِلا أَثْقال

Views: 31

الأب كميل مبارك

تعيش الكنيسة الزمن الطقسي الذي يمتدُّ من زمن الميلاد إلى زمن الصَّليب، فيُفتَتَح بتقديس البيعةِ وتجديدِها ويُختَتَم بعيد المسيح الملِك. تعيش هذا الزمن وكأنَّها في غربةٍ عن زمنِ النَّاس الَّذي يبدأُ برأْسِ السَّنة وينتهي في آخرِها. أَقولُ في غربةٍ عن زمنِ النَّاس، لا لأَنَّ النَّاسَ لا يَعْنونَها، بل لأَنَّ الزَّمنَ حينَ يتقدَّس يَحْضنُ في حَناياهُ كلَّ الأَزمنة وكلَّ مَنْ عاشَ في هذه الأَزمنة، لأَنَّ مَنْ يقدِّسُه هو السَّرْمديُّ الأَزليُّ الأَبديُّ الذي كان قبل الزَّمن، وما الزَّمانُ إلَّا نتيجةٌ لقَوْلِه كُنْ فكان.

تعيشُ الكنيسةُ ونحن فيها ومِنْها ولَها الزَّمنَ الطَّقسيَّ، ليس كما نعيشُ زمانَ كَرِّ الأَيَّام المُرتبط بدَوَرانِ الأَرضِ حول الشَّمْس وبشُروقِها وغُروبِها لأنَّ شمسَ السَّنةِ الطَّقسيَّة هو مَنْ قال: أَنا نورُ العالَم مَنْ يتبعْني لا يمشي في الظَّلام. ولَئِنْ كانت السَّنةُ الطَّقسيَّةُ تتمحْوَرُ في تراقي أيَّامِها حولَ عيدِ الفُصْح، فإنَّها تزْدانُ بأَعيادٍ ومناسباتٍ ما هي إلَّا مشاعلُ نورٍ وواحاتُ صحارٍ يقفُ فيها المؤْمنُ ليستنيرَ ببَهائِها ويستظلَّ من عناءِ البُعْدِ عن دِفْءِ الإيمان بفَيْئِها ويَنْهلَ من ماءِ تلك الواحات ما يُطفئُ عطشَ الصَّحاري، عملًا بكلامِ السيِّد حينَ قالَ: أنا ماءُ الحياة مَنْ يشربُ من هذا الماءِ لا يعطشُ أبدًا.

هذه هي الأَعياد التي تُضيء الطَّريق على امتدادِ السَّنة الطَّقسيَّة لتُعيدَ المؤْمِن الذي تاهَ، إلى حين، عن طريق غايتِه القُصْوى، فيعود تائِبًا مصلِّيًا ليلتقيَ بإخوتِه المؤْمِنين فيشعُر، إذا اسْتفاق من غَيْبوبةِ الزَّمن العادي، أنَّه غصْنٌ في الكرْمةِ التي تتغذَّى من الحبِّ الإلهيِّ. أَجل، أَقولُ غيْبوبة الزَّمن العادي لأَنَّ هذا الزَّمنَ يُثْقِلُ كَواهِلَ النَّاس بمشاغلِ الحياة وهمومِها، لِذا نرى النَّاسَ، أو قُلْ بعضَهُم، يركضونَ خَلْفَ ما يَسْنُدُ استمرارَهُم في الوُجودِ ولوْ كان هذا الوُجودُ مُضْنِيًا. فالزَّمنُ العاديُّ يُلْزمُهم بالأَكْلِ والشُّرْبِ والاستشْفاءِ والتَّعليم وتأْمين ما يُبْعِدُ القلقَ عن مستقبلِهم القريب ومستقبل أولادهم البعيد، لِذا نراهم مُنْشغِلين في كلِّ ما يُلْهي قلوبَهم وعقولَهم ومشاعرَهُم عن الغايةِ القُصْوى التي خُلِقوا من أَجلِها، عَنَيْتُ البقاءَ مع الحبِّ الإلهيِّ إلى الأَبد.

قليلونَ هم الذينَ أَغْمَضوا أَعْيُنَهم عن كلِّ مُستلزَماتِ هذا الزَّمن الثَّقيل فتركوه وتركوا شمْسَهُ وقمَرَهُ وكأَنَّهم وصلوا، وهم على هذه الأَرض، إلى ما وَصَفَهُ الرُّوحُ القُدُس حينَ أَوْحى للقدّيسِ متَّى فكتبَ في إنجيلِه واصِفًا نهاية هذا الزَّمن الثَّقيل بقوْلِه: حينَها تتساقطُ الكواكِب وتُظلِمُ الشَّمس ويحمرُّ القمر. هذه القلَّةُ التي اكتشفتْ، وهي على الأَرض، أّنَّ الغايةَ القُصْوى هي الوَحيدة التي يجبُ أَنْ نعملَ لها فتركوا كلَّ شيءٍ وتَبِعوا شمسَ الحقّ، فزَهِدوا بالدُّنْيا وتخلَّوْا عن كلِّ مَتاعِها فتَنَسَّكوا، جسدُهُم على الأَرْض وعقْلُهم على السَّماء.

أَمَّا الآخرون ونحن منهم، فهم بحاجة إلى استمرارِ الهِدايَة فكانت السَّنة الطَّقسيَّة، يتمسَّكون بأَهْدابِ شُعاعِها ويَمْشون، مع الميلادِ يمشون، ومع الدِّنْحِ يسهرون، ومع الصَّوْمِ ينْهدون إلى العُلا، ومع الآلامِ يخْشَعون فيصِلون إلى القِيامة. وهكذا، تكونُ السَّنةُ الطَّقسيَّة حالةً يعيشُها المُؤْمنُ كيْ لا ينْسى مَنْ ينْسى، ويستمرَّ في يَقْظتِهِ مَنْ كان واعِيًا على هدَفِ وُجودِه. وهكذا يستقبِلُهم ملكُ المجْدِ في عيدِ المسيحِ المَلِك رعيَّةً واحدةً لراعٍ واحد.

(Tramadol)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *