غَفْلَةُ العُقَلاءِ وفِطْنَةُ الثَّعَالِب

Views: 273

الأب كميل مبارك

يَقولُ الحُكَمَاءُ إنَّ الأَمْثَالَ يَأْتِي بها أَذْكِيَاءُ أَو أَنْبِيَاءُ، فإنْ صَحَّ هذا الأَمْرُ أَوْ لا، فَهذَا لا يَعْنِي أَنَّ الأَمْثَالَ لا قيمَةَ تَعْليميَّةً لَهَا، خَاصَّةً أَنَّها تَأْتِي مِنْ تَرَاكُم التَّجَارِبِ واسْتِخْلاصِ العِبَر، وهي وَليدَةُ خِبْرَةِ شُعُوبٍ مَرَّتْ في أَزْمِنَةِ تَطَوُّرِها بِمَا يُعَلِّمُها

الحِكْمَةَ، فتُعْطِي بقَليلٍ مِنَ الكَلام مَا يَرْسُمُ دَرْبًا للتَّصَرُّفِ السَّليم والسُّلوكِ القَويم،ِ حتَّى إذا وَقَعَ أَحَدُهُم في ضَائِقَةٍ أَوْ مَأْزِق، ذَكَرَ المَثَلَ واسْتَنَارَ بِهِ كَيْ يَجِدَ طَريقًا للخُرُوج مِمَّا أَوْقَعَتْهُ بِهِ الصُّرُوفُ أَو وَضَعَتْهُ فيه الظُّرُوف.

يَقُولُ المَثَلُ الفَرَنْسِيُّ: إنَّ الثَّعْلَبَ حينَ يَدْخُلُ وَكْرًا، أَوَّلُ مَا يَبْحَثُ عَنْهُ هو طَريقُ الخُروج مِنْ هذا الوَكْرِ، دَرْءًا للوقوع في فَخٍّ مَنْصُوبٍ أَو صَيَّادٍ مَوْهُوبٍ أَو مُفْتَرِسٍ مَرْهُوب. وفي هذا المَثلَ حكِمَةٌ لمِن يكُلفَّ مهَمَةَّ أوَ يتَسَلمَّ مسَؤُوليِةَّ خَاصَّةً أَو عَامَّة، فَيَفْرَحُ بِدَايَةً ثُمَّ يَقَعُ في المَتَاهَاتِ، فيَضيعُ الهَدَفُ ويَتيهُ هو في المَفَارِقِ والمَدَاخِل، ويَنْقَطِعُ التَّوَاصُلُ مع بَابِ الدُّخولِ ولا يَصِل، حَتَّى مَنْهُوكًا، إلى بابِ الخُروج.

إنَّها حَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا تَلْمَعُ في عَيْنَيْه حِلْيَةٌ مَا، فَيَسْعَى للوُصُولِ إلَيْهَا مِنْ دونِ أَنْ يَحْسبَ حِسَابَ المَخَاطِرِ الَّتي تُهَدِّدُ مَشْرُوعَه، أَو العَوَائِق الَّتي تَحُولُ دُونَ إدْرَاكِهِ مُبْتَغَاه، فَيَقَعُ في الضَّلالِ ويَغْرَقُ في المُحَال، والخَطيرُ في الأَمْرِ أَنَّ مَنْ كانَ يَظُنُّهُم أَعْوَانَهُ وأَصْحَابَهُ ومُسَانِديه ومُرْشِدِيه،ومَنْ كانَ يَسْتَقْوي بِهِم ويَتَّكِلُ عَلَيْهِم، لَمْ يَجِدُوا، هُم أَيْضًا، طَريقَ الخُرُوج مِنَ الوَكْرِ، بل ابْتَعَدُوا عَنْهُ وارْتَدُّوا إلى حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَنْظُر، واتَّجَهُوا إلى المَوَاقِعِ الَّتي كانَ يَرَى فيها خُصُومَه، وفي جَميعِ الحَالاتِ يَنْسَدُّ الأُفُقُ ويَضيعُ مَا كانَ سَهْلًا الوُصُولُ إلَيْه، لَوْ عَرَفَ هذا المِسْكينُ أَنَّ مَخَارِجَ الأُمُورِ لا تَقَعُ جَميعُها في اتِّجَاهٍ واحِد، ولا يُنْظَرُ إلَيْهَا مِنْ زَاوِيَةٍ مُحَدَّدَة، إذ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَفِتَ يَمينًا وشِمَالًا ورُبَّمَا صُعُودًا ونُزُولًا كَيْ يَتَأَكَّدَ من أَنَّ الجِهَاتِ السِّتَّ قدْ أُحْصِيَتْ وحُصِرَتْ، وأَنَّ الغَفْلَةَ عَنْ أَيِّ بَابٍ قَدْ تُؤَدِّي إلى الخَرَابِ أَو تُغْرِقُ في الضَّبَابِ أَو تَكُونُ سَبَبًا للعَذَاب، وفي جَميعِ الحَالاتِ يَفْقِدُ رَجُلُنا التَّائِهُ مِصْدَاقِيَّتَه ويُشَكِّكُ النَّاسُ في قُدُرَاتِهِ، وتَتَشَوَّهُ صُورَتُه الَّتي رَسَمَهَا عَنْهُ ولَهُ المُخَادِعُون.

وفي أَحْسَن الحَالاتِ يُدْرِكُ هو نَفْسُه أَنَّه فَاشِلٌ، وأَنَّ الحَمْلَةَ الَّتي حَاوَلَ أَنْ يَحْمِلَهَا، أَو حَاوَلَ الآخَرونَ الغَافِلُونَ أَنْ يُحَمِّلُوه إيَّاها، لِعِلْمِهِم أَو تَصَوُّرِهِم أَنَّ بذلكَ الوُصول إلى مُبْتَغَاهُم، لم تبلُغْ مرادها حتَّى ولَوْ أَضَاعَ هو فُرْصَةَ الثَّبَاتِ وعَجِزَ عَنْ مَعْرِفَةِ قُدْرَةِ الذَّات.

فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ أَدْرَكَ المَسْؤُولونَ عَن الأَمْرِ وأَهْلُ الشَّأْنِ في لُبنان، كَمَا ذاك الثَّعْلَبُ الفَرَنْسِيُّ، مِنْ أَيْنَ طَريقُ الخُرُوج مِنَ الجُحْرِ أَو مِنَ المَآزِقِ الكُبْرَى، لَمَا وَقَعُوا في مَا وَقَعُوا فيه، وما أَضَاعُوا على النَّاسِ فُرْصَةَ الِإنْقَاذِ مِمَّا يَتَخَبَّطُ بِهِ المُجْتَمَعُ اللُّبْنَانِيُّ شَعْبًا وسُلُطات.

(تشرين الأول  أُكْتوبر، 2009)

***

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” الصادر عام 2018.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *