“نغمٌ على إيقاع الذاكرة”

Views: 772

استراليا-أنيس غانم

أمسك يدَ المعطفِ كصديقٍ قديم.

شعر بآثار دفءٍ استحضرت بقايا نيكوتين ونبيذ وخيالات.

أخبرته ظلال الأجساد على المقعد أن الليلة الفائتة كانت غنيةً بالأحلام. بدليل آثار العيون على النجوم، وخلو الباحة من الغبار.

صحيح أن المطر لا يزال حبيس الغيوم منذ فترة، لكن الهواء حرص على إبقائه بعيدا، وحمل وعودا بحطب غير مبلل.

تنفس ملء رئتين متعبتين … تمنى لو يعثر على هواء غير مستعمل يساعده على إنهاء سيجارته.

الهواء المستعمل مضرٌ بالأفكار النبيلة، ويحضرُ غبارا يمحو آثار أناسٍ طيبين، كانوا هنا.

بقايا الحطب في الموقدة المرتجلة أخبرته عن حكايات رويت، وعن غائبين لم يغيبوا عن البال حقا.

بعض الغائبين عاد الى الأسطورة، والبعض التحف ذاكرة مشبّعة برائحة النبيذ وأنغام الكمان.

 

تمنى لو أن الريح في القرية المجاورة أكثر رفقا بالطريق وبالحوذي الذي آثر دفء ثديين أغوياه بحساء ساخن، لكان حضر اللقاء ولو من بعيد. ولكان الليل حمل اليه صوت المتقدم في العمر والتجربة يعيد، بنغم مبحوح، رواية الذي نزل الى المدينة وأحب حسناء أخذته الى مرافئ تصخب ببحارة وبائعي أقمشة وكتب ممنوعة.

لا بد أن صوت المغني كان مليئا بالشوق الى الغائب … وتخيّل صبية تصغي اليه متمايلة على وقع الحنين الى اصابع أنبأتها بأنوثتها.

كانت الأغنية خالية من الدمع، وإن كانت حزينة قليلا.

الأغنيات الجميلة مليئة بالحزن الرقيق دائما.

 

على المقعد رماد وشال قديم.

لم يعرف ما اذا كان الشال للمتقدم في العمر أم للصبية. لم يهمه الأمر كثيرا. آثر أن الشال يليق بالصبايا وإن كان خاليا من التطريز والزراكش.

تخيلها على المقعد مسحورة بذاكرتها، رأسها الى كتف المغني تسأله المزيد وعيناها مفتوحتان على لقاء قد لا يتم.

وبعدما جرعت حصتها من النبيذ، رفعت الشال فوق كتيفيها وتمايلت.

 

الكمان في يد العازف عرفت الطريق الى نغم راقص، واستحضرت ميلودي تليق بالأرض والأقدام.

عقيرة المتقدم في العمر استعادت بعض فتوتها، فغنى الحنين الى الفيافي البعيدة، قرب البحيرة المشتاقة الى أجساد تغتسل على ضفافها.

وعندما ضرب العازف قدمه في الأرض على وقع النغم، انساب نسغ الشجر، حول الساحة، من الشجر الى البحيرة.

 

ومال الشال على خصر الصبية يذكّرها بمن ساعدها على البلوغ، فتمايلت اشتياقا الى مزيد من النبيذ.

غنّى بمشاعر كان يعتقد أنه افتقدها. رفع قبعته تحية لكثيرين في البال. وانحنى متخيّلا أنه في الساحات يتلقى قطعا تقيه الحاجة الى ذل سؤال المشاركة في الدنّ عند العشيات.

 

على صوته رقصت كتبٌ تجمعت حول أنامل العازف الذي واصل ضرب الأرض بقدميه محدثا حفرة صغيرة.

النغم يعرف أن ليس كل الحفرات قبورا.

صار الغناء صراخا يستلهم الله قصيدة جديدة.

غناء الغجر صراخٌ مكتوم لاستحضار الآلهة. استدعاء مزخرف بألوان الفجر والطرقات. لعله استحضار لغائبين من الفراغات الشاسعة لدلهِّم الى البحيرة المشتاقة الى أجساد تغتسل على ضفافها.

 

تعبت قدما الصبية، لكنها ظلّت تتمايل. صحيح أن الشال انسلّ الى المقعد، لكن نسغ الشجر صار صوفا شغِفا بالمسام. ولما تبدّت ماسات العرق على جبينها، أدرك العازف أن الفجر الى انبلاج.

وأعلنت حنجرة المغني حاجتها الى مزيد من النيكوتين.

 

***

أحتاج الى هواء طازج غير مستعمل. ليس ضروريا أن يكون هواء نقيا جدا. يكفي أن يأتي من نغم يستدر آهةً تعينُ على المسافة.

الطرق طويلةٌ جدا الى اللامكان. كل رصيف وطن. كل غصن غابة. وماس الجباه مشروع بحيرات جديدة.

لعلّ الحوذي ملّ دفء الحساء والثديين. ولعل العصافير، كعادتها، تدله الى مكان العشيرة.

سيحمل أسئلته الى الغابة القريبة، وستجيبه، كعادتها، حتما. وسيدلها الى مكان البحيرة، ويغتسل.

***

على المقعد بالقرب من الموقدة المرتجلة، كان المعطف صديقا قديما.

***

(*) خاطرة مكررة من جنوب الأرض.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *