روبير خوري… ذاكرة الشعر العامّي

Views: 193

د. طوني كرم مطر

    لم أرَ في حياتي شاعراً أحبّه القرطاس والقلم والمطبعة والحروف الأبجدية كالشاعر روبير خوري، فهو منذ طفولته عمل في مطبعة، فاختلطت أنفاسه بعبق رائحة الورق والحبر، وتوسعت مداركه باكراً لأنه قرأ وتثقَّف، وهذا ما ميّزه عن غيره من الشعراء.

    روبير خوري، عَلمٌ خفّاقٌ فوق روابي لبنان، وهو صاحب قضية، عمل لأجلها وضحّى من أجل رفع مستوى الشعر العامي من خلال مجلة “صوت الشاعر” أو من خلال الموسوعة التي تؤرخ للشعراء وللشعر الزجلي.

    روبير خوري يستحق لقب الطوباوي، لأنه أفنى عمره يعمل لحفظ التراث الشعبي، ولهذا اقتنى في مكتبته الخاصة أكثر من ألف كتاب في الشعر العامي.

    روبير خوري ذاكرة الشعر العامي لأكثر من مائة عام، لأن إنتاجاته ما هي إلاّ عصارة فكر متقدم شارك في الخلق والإبداع 

    وكتابه الزجلي، “هيك العمر” استوفى خصائص وميزات الزجل اللبناني ونجح في التعبير عما يريد بعفوية وصدق حيث يخاطب الشعور الإنساني متحدثاً عن مراحل العمر والذكريات مروراً بالغزل والوطنيات، وشاعرنا روبير خوري مبدعٌ مجيد لم يكتف بالموهبة فقط، بل صقل شعره معلّياً من شأن الزجل اللبناني.

    قسّم الكتاب الى فصول : الأول بعنوان “آه يا عمر” وهي قصائد وجودية. والثاني “آه يا حُبّ ” 

وهي قصائد غزلية. والثالث “آه يا وطن” وهي قصائد وطنية. (usa2goquickstore.com) والرابع قصائد الذكريات. والخامس قصائد المناسبات التي شارك فيها المؤلف. واختتم كتابه بباقة من أقوال شعراء وأدباء في شعره. 

    يقول الشاعر روبير خوري :

قلت الحقيقه…

حملت همّ الفكر !

رفعت الوطن رايات مضويي

حرَّرت عصر من العبوديّي

وصرت حريه..

    يغني الشاعر للحرية، ويفرح لأطيافه إذا اقترب ويهفو الى نسائمه ويستدرج غيماته البيضاء والسمراء، فقول الحقيقة عنده متلازم مع الحرية فلا حرية مع الكذب والرياء والشاعر الذي حمل همّ الفكر لسنين طوال يدعو الناس الى الصدق وهي الطريق الموصل الى الحرية، وهكذا تدرّج في كلامه الى أن قال : “صرت حريي “.

    والحرية عنده هي النار التي تكوي ضلوع الشاعر وهي الحُبّ الدفين والظاهر يعلو على جبهة الشاعر وسلوكه، وإذا افتقدها أضاع الحُبّ والأمل وأضاع النفس والبهاء  والحرية عند الشاعر هي حبّ كبير للوطن، يتماهى في ترابه وينغمس في غصون أشجاره، مهفهفاً بين جباله وأنهاره ولذا فإن شعره معبرٌ الى الحرية لا بل قُلْ الحرية نفسها.

    يقول في مطلع قصيدة خمسين سنه صفحة 22 :

يا عمر الماشي فينا    

بسرعه لوَين مودّينا

لا الرايح معقول يعود    

ولا الجايي بيكفّينا

    أرى ان الشاعر يعلن عن القوة والواقعية والصدقية التي تتمتع بها ذاته المضاءة من النور المطلق.

    هذه الصفه الإنسانية ولادة، شيخوخة، موت، حركة الى الأمام أم هي تراجع الى الخلف، وكلماته تثري تربة الروح بلمس الجذور في 

المشهد الإنساني، وهذه القصيدة بحق وبثقة روحية وحقيقة وجودية. 

    يقول في قصيدة كل الحلا، صفحة 35 :

كل  الحلا، كل  العشق إنتي    

بفكري.. بإحساسي تكوّنتي

مهما  بعيني يمرقو  حلوين    

بشوفك بقربي وين ما كنتي

 

إنتي  يا ترتيلة  صلا !!    

إنتي يا فردوس الحلا !!

حلمتك مــلاك.. بعالم  النسيان 

وعشت بصراع القلب والوجدان…

    الحبيبة عند الشاعر روبير خوري الملهمة التي تنهمر نوراً وضياء في مناخ من الحبّ الطاهر وهي طيف سماوي لا بل هي ملاكه الحارس وهي أقرب الى الروح لشدّة الشفافية، إنها حبيبته مبدعة الخير والحق والجمال وهي الحرية المطلقة وهي ترتيلة صلاة وهي الفردوس المشتهى. هذه القصيدة تدل على الحُبّ العذري عند الشاعر، فالحبيبة فكرة وصلاة وترتيلة وابتهال، ترش اللحن والموسيقى، لها أنامل وردية رقيقة تشترك مع الشاعر في كتابته لقصائده، فالشاعر روبير خوري يعيش في جوٍّ عذري تعلوه مسحة من الرومنسية وهذا دليل قاطع على مدى الحُبّ العميق المتأصّل في كيانه.

    يقول في قصيدة : حقّي !

حقّي إسال حاكم سافر    

ملهي عن حقّي… وبيفاخر

كيف بدّك بُكرا تعاملني    

بهالفوضى الــ ما إلها آخر

    هذه عينة من القصيدة التي تحمل دلالة القسوة والظلم الذي يعيشه اللبناني، وإذ يثور الشاعر ويطالب بأبسط حقوقه وكل هذا نتيجة إحساس مدمّر بالواقع السيّيء المعاش حيث أصبح الفساد مفخرة والإهمال طريقاً لإخضاع الناس.

    والشاعر إذ يدقّ ناقوس الخطر عبر مطالبته بحقوق كل اللبنانيين، وهنا يعبّر عنهم جميعاً فحقّهم أن يتعلّموا وحقهم ان يتطبّبوا.

    وإذا ما تتبّعنا كل مفردات القصيدة نجد في كل حرف قوّة هائلة تخلق صورة فعل “الثورة”، وثورته ذات نزعة عامة يطالب بحقوق كل الناس وهذا موقف جهاديّ رافضٌ للذلّ، كيف لا والشاعر ارتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا لبنانية، وهذا يدل على انسجامه 

الوثيق بين قوله وفعله، وهو شاعر الناس لا شاعر السلاطين. ولأنه شاعر الناس يستخدم شعره للحد من قوى التسلّط والقمع لتغيير الواقع المرير الذي كان له تأثير بالغ في نفس الشاعر حيث يشعر بأن ذاته مطعونة ومصابة بجرح عميق، ومع ذلك فهو يرفض الرضوخ ويربط مصيره بمصير ومسؤولية الآخرين في العالم مختاراً معهم الكفاح والمقاومة.

    يقول في قصيدة أشواق صفحة 63 :

غبتي، وغيابك كان لطموحي جنون    

وما حسبتي حساب هالعمر القصير

رحتي وتركتي بخاطري خيبة ظنون

ومسيهرا عيوني على جهل المصير 

    يظهر لي في هذه العيّنة ان الشاعر يعتريه القلق من جهل المصير، وهذا ما يخلق عنده إحساس بالتوتر والخوف من بُعد حبيبته عنه.

    والقلق مسألة عادية يشعر بها الشعراء لأنهم حسَّاسون ورومانسيون، فكيف بنا إذا كان الشاعر روبير خوي.

    روبير خوري، مفكّر ومثقّف من الطراز الأول، أَبعاده متعددة، حياته مكثّفة بالأعمال الإبداعية، اجتهد ليساعد كل الشعراء الناشئين وأبدع حين كرّم الشعراء الراحلين وضحّى حين كرّم الشعراء المبدعين.

    روبير خوري، شديد الإلتزام بمبادئه، لصيق بقناعاته، إنساني، شغوف، يُغني ويُثري، صوره الشعرية إيقاعات صوتية، صديق وحبيب كل الشعراء، مسكون بالحُبّ والأحلام، حميمي في كل شعره، كتابه: ” هيك العمر ” عملٌ فنّي راقٍ، زينة كل مكتبة، مرجع لكل باحث.

    قراءتي لشعرك غوص في السحر، إلتقاءٌ بالآلهة، سفَرٌ مع الملائكة، اتحادٌ بالحُبّ والنقاء… 

             

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *