إضاءة على كتاب  “كما عرفتهم” لـ محمد كريّم

Views: 25

د. عمر طباع

 *المقصود بـ “كما عرفتهم” هو معرفة محمد كريّم بـ”الأقطاب الأربعة” في حقول الفن المختلفة: محمد شامل، وعمر الزعني، وتوفيق الباشا، وشوشو…

من منشورات “دار نيلسون” القيّمة، كتاب “كما عرفتهم” للكاتب والمخرج المسرحي الاداري اللامع محمد كريّم.

إن النبذة القصيرة التي أوردها المؤلف عن مسيرته الفكرية كشفت عن شخصية مرموقة متعددة المواهب، لها باع طويل ليس في الإخراج المسرحي وحسب، بل في حقل الإعلام والتوثيق والفنون الجميلة، كما في حقلي الإدارة والعمل الإذاعي، ذلك لأنه المسهم الأول في تأسيس اذاعة “صوت الوطن”، التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت. ونضيف الى هذه الأنشطة التي تمرّس بها خلال نحو نصف قرن من الزمن، نهوضه في الحقل الجامعي، محاضراً في كلية الإعلام والتوثيق، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب اللبنانيين، ورئيساً للمركز اللبناني التابع للمؤسسة الدولية للمسرح «اليونيسكو»، ورئيساً لدائرة البرامج في إذاعة لبنان، وله في دنيا الكلمة وصناعة الحرف أكثر من مؤلف نذكر منها «في البال يا بيروت»، و«اللحن الثائر»، وأمام هذا الكم من الجهود في ميدان الفكر والكتابة، ليس بالغريب أن يتوج صدره بوسام الاستحقاق اللبناني.

وقد عنى هذا الألمعيّ بالذين “عرفهم” كوكبة من الرواد في الحياة الفنية اللبنانية على امتداد أكثر من خمسة عقود، بين مطلع القرن العشرين ومشارف القرن الحادي والعشرين، وهمالمشاهير في ميدان الفن و الاصلاح الاجتماعي، والشعر الشعبي والمسرح الفكاهي،  الذين تناولهم في الكتاب المذكور على التوالي، كما أرّخ لهم ولمسيرتهم الحافلة، بالنبوغ والشهرة: 

  1. محمد شامل (١٩٠٩-١٩٩٩)
  2. محمد الزعنّي(١٨٩٥-١٩٦١)
  3. توفيق الباشا (١٩٢٤-١٩٦١)
  4. حسن علاء الدين “شوشو” (١٩٣٩-١٩٧٥)

وقد رأيت لزاماً عليّ قبل ولوج فصول هذا الكتاب، أن أقف قليلاً أمام المقدمة التي أفتتح بها الأستاذ محمد كريمّ، تاريخ أولئك الأفذاذ الأربعة، فهي تنطوي على جملة من الحقائق التي لا تستقيم الدراسة الأدبية إلا انطلاقا منها. 

 

مقدمة الكتاب

جاء في المقدمة المذكورة:

“قضت طبيعة عملي في الحقل الاعلامي والفنّي، طوال أكثر من أربعة عقود، التعامل مع فئة من الفنانين والأدباء، وشاء حسن طالعي أن أتعرف من بينهم على أربعة من الروّاد تربطني بهم صداقة فيها الكثير من الودّ والمحبة والاحترام المتبادل.

وقد توطدت هذه الصداقة بفعل الزمالة والاتصال اليومي، مما أتاح لي التعرف عن قرب على طباعهم وأمزجتهم ومقوّمات شخصيتهم والأهم من ذلك على فنهم وعطاءاتهم”.

. . . واليوم وقد مضى أكثر من أربعة عقود على رحيلهم، وبعد أن مرّت البلاد بأيام محت بظلامتها الكثير من أثرهم وآثارهم أخذ بعض الكتاب والمبدعين والمثقفين من الجيل الجديد يبدون اهتمامهم بهؤلاء الفنانين الذين نحن بصدد التحدث عنهم وعن المرحلة التي كانوا أبطالها بعد أن تنامى إليهم بالتواتر حبّ الناس لشخصياتهم وللدور الوطني الذي لعبوه في مجتمعهم، فأرادوا هم أيضاً أن يعبروا عن تقديرهم لهذه القامات الجديرة بالتقدير والاحترام.

نستنتج من هذين المقطعين، في مطلع تلك المقدمة، حقيقتين هامّتين، يعوّل عليهما في ارادتنا الرامية إلى إبراز المكانة التي شغلتها سير هؤلاء الأقطاب الذين رفعوا لواء الكفاح في أربعة من الحقول ذات الأثر البالغ في ساحة الحياة الاجتماعية إبّان الحقبة الزمنية التي رافقت حياتهم:

الحقيقة الأولى: رابطة الصداقة التي جمعت المؤلف بأولئك الروّاد بفعل الزمالة والاتصال اليومي. ومن شأن هذه الرابطة الحميمة أن نقف على أمر له خطره في باب التأريخ ألا وهو ما نتوخّاه من الدقة في الكشف عن الوقائع والتوصل الى وضعها في الإطار الصحيح. هناك ولا ريب بون شاسع بين أن يعمل المؤرخ في إطار البيانات التي ترد في الآثار التي يتركها رواد الفكروالاجتماع، وتلك التي تضع بين يدينا القطوف الدانية من المعايير الوجودية الحيّة التي نقف عليها من خلال الاحتكاك المباشر مع سيرة الكبار. فها هنا من الفوائد والمعطيات التي تفوق تلك التي نستنتجها بالدرس والاجتهاد، وعلى ضوء الأسانيد التاريخية. وقد عززّ عندنا أمام هذه الحقيقة الأولى قول الأستاذ كريّم بالذات في سياق التوطئة التي قدّم بها كتابه حيث ذكر أن المراجع التي كانت بين أيدي الجيل الجديد . (hippainhelp.com) . . لم تكن كافية فجاءت كتاباتهم غير دقيقة أحيانا ومشوّشة أحيانا أخرى. 

أن أهمية التواصل بين الكاتبْ والشخصية التي يأخذ على عاتقه العناية بدرسها تفضي بنا الى سيرة نابضة بالحياة، كالفرق بين من يؤرخ بالحبر والمداد، وذلك الذي يستخلص.

البينات من الانفعال المباشر الذي يمد قلم المؤرخ بدم القلب…

والحقيقة الثانية: أن الكاتب قد حاول جاهداً أن يكون كلامه على هؤلاء الزملاء الأصدقاء– كما نعتهم – بموضوعية، دون أن تترك العلاقة الحميمة التي ربطتني بهم أن تفسد الحقائق.

إني أجلّ هذين المعيارين في تينك الحقيقتين لأنهما من الأسباب التي من شأنها تشويه التاريخ والخروج بالبحث عن الجادة القويمة وهذا كلّه مطيّة لإفساد طابع النقاء والصدقية في كتابة السير التاريخية. 

وفي مقدمة هذا الكتاب بالذات ظاهرة تستحق الاكبار والاعجاب، نقف عليها في الأسطر الأخيرة من التوطئة تلك:

قال المؤلف: هؤلاء الأربعة الكبار أمتعوا الناس بفنهم و أدخلوا البهجة إلي قلوبهم.. كل منهم كان منفرداً و متميّزا في مجاله.. طبعوا الحياة الفنية في لبنان ببصمة الأصالة. وهكذا ننطلق في ثنايا مسيرة هؤلاء الكبار ، كما عرفهم زميل كان صديقا أو كان معاصراً لرحلة حياتهم بالتفاعل المباشر الذي تمتزج في معينه مقوّمات الوجود ، ولذلك صح قوله: “كما عرفتهم وكماسنعرفهم من خلالهذا التاريخ الحيّ”.

محمد شامل

 

محمد شامل 

أول هؤلاء الأربعة الذي عمّر زهاء تسعة عقود بين (١٩٠٩ و ١٩٩٩)، وكان محمد كريّم على صله وثيقة به خلال ستة عقود، كرائد من روّاد الفن الشعبي الذي تجلّى في آثار تلك الشخصية اللافتة، التي حينما حطت رحالهالتنتقلإلى الأبدية، افتقد الوطن (المربي والكاتب و الأديب والشاعر، واللغوي، والفنّان.. ورائداً من رواد الحركة المسرحية في لبنان).

هذا هو الاستاذ المتعدد المواهب محمد شامل، من مواليد العام ١٩٠٩من أهم مميزات محمد شامل فكره النير ذو الأبعاد الثقافية الشاملة، يرادفه «حسّ كوميدي» قلّ نظيره بوّأه مركز الصدارة الفنيّة على مدى نصف قرن. «بدأ هاوياً وانتهى محترفاً، وتعاطى التدريس في عدد من المعاهد، ونجح معلماً واداريا بارعاً إلى أن تولى مرتبة الإخراج الفني في إذاعة لبنان».

وكما عرف ببراعته في الإخراج، شهد له المسرح بتفوقه في التمثيل. وهو في هذا الميدان لم يدع لوناً فنياً إلا خاض فيه إذاعياً وتلفزيونياً، وأدى بإتقان قلّ نظيرهالأدوار التاريخية والاجتماعية والأدبية، وجمع بين الأداء والكتابة فألف في شتى الألوان المسرحية وكشف عن ذخيرة ثقافية أهّلته للارتقاء الى أعلى مستويات العطاء. 

وكانت أدوار الفكاهِة والطرائف النادرة من أهم ما تميّزت به تلك العبقرية النادرة.

 

قال الأستاذ محمد كريّم في حديثه عن أدواره الكوميدية فأشاد بحفاظه على الحدود بين “هزل هابط ورخيص وبين ما هو كوميديا” رفيعة الشأن، وكان طوال ممارسته العمل الفني محافظاً على المسافة بين الحدّين، “فيبقي الموقف والنكتة في كتاباته محافظين على نظافتهما”، فاستحق الإطراء والثناء لأنه كان صانعاً ماهراً، يملك الكيمياء العجيبة التي مكـّنته من تحويل غير قليل من كتب التراث الأدبي الخالية من اللون الدرامي إلى أعمال تدب فيها الحياة” ومن أبرز المؤلفات التراثية التي استقى منها البرامج الإذاعية والتلفزيونية كتاب الأغاني للأصفهاني، وكتاب الحيوان للجاحظ، والمستطرف في كل فن مستظرف للعلامة الأبشيهي.

وقد جمع في أدواره التمثيلية بين الفصول الكوميدية والجادة، وكانت موزعة بين الأصالةوالحداثة، وفي مسيرته الطويلة لم يكن ممثلاً نمطياً محدود الأداء، بل لعب أدوار القادة والملوك والخلفاء والأدباء . . إلى جانب أدوار الندمان، فشخّص مواقف جحا وأشعب كما برز في شخصية المختار والحكواتي. 

وكان لمحمد شامل مجلس هو أشيه بحديقة يانعة الثمار. وقد كشف بحماسة على مرّ الزمان عن خبرة واسعة ومذاق صادق في شتّـى المعارف، وكان قادراً على الجمع بين الأدب واللغةوالفلسفةوالفن، حتى اعتبر مجلسه أشبه بمجلس أديب من مشاهير أدباء العرب، وهو أبو عثمان الجاحظ صاحب البخلاءوالبيان والتبيين والحيوان ورسالة التربيع والتدوير.

وإذا تجاوزنا ما قاله الفنان العملاق عن سيرته الطويلة منذ عهد الأستاذية، حتى مشارف المئوية من السنين كي نتجنب الإسهاب في حديث صحفي لا يتسع للمقالات الطويلة كان لابد من المرور ولو سريعاً على أدواره في التلفزيون والسينما وشخصية الأديب الشعبي، وصاحب الأمثال. فقد أتقن محمد شامل هذه الأدوار وأعطى كلاً منها خاصتها ولونها المميّز. فمن أدواره المسرحية، يا مدير، ومسرح أبو الريش، وحكاية كل يوم، ومغامرات أشعب والكندي . . . الخ،

أما في السينما فقد اشترك في العديد من الأفلام كاشفاً عن موهبة في التأليف والأداء، ومن هذه الأفلام:صانع الفران، ونوروظلام، وعروس لبنان، وقلبان وجسد واللحن الأول والمعلم لطوف، ومن الذين شاركهم في “سينمائياته”: محمد سلمان، وحسين فوزي وعبد الرحمن مرعي، وعبد السلام النابلسي، والياس رزق، وشوشو، وغيرهم كثير.

والإيجاز يرغمنا على القول في ختام هذا العرض السريع بأن أدق ما يبرز هذه الشخصية الغنية ما قاله الأستاذ محمد كريّم عن صديقة ورفيق دربه الفني:

«كان محمد شامل علماً بارزاً من أعلام نهضتنا الأدبية والفنية تفرد بفرادة مدرسته الشعبية وبتنوع ثقافته، وبتجسيده تراث بيروت المحروسة وولولاه لضاع تراثها الشعبي.

…بـرحـيله افتقدنـا فيه . . الصـديق الـوفيّ الـمخـلص، النـصوح، ورجل العلم … والإنسان الشعبي بكل عفويته وبساطته وطيبته وتسامحه . . عجنته الأيام وعركته ظروف الدهر فما طأطأ الرأس الا خشوعاً لربّ العالمين»

عمر الزعنّي

 

عمر الزعنّي

يروي لنا الأستاذ محمد كريّم ذكرى لقائه بالشاعر الشعبي عمر الزعنّي (1895-1961) في مكتب المنوّعات، في إذاعة الشرق الأدني، عقب توظيفه مخرجا، فيقول: “أذكر أن الفنان عمر الزعني، دخل علينا”، في مبنى الإذاعة، وكان بين الحضور الفنان عبد المجيد أبو لبن، مراقب المنوّعات. فالتفت الزعني إليّ وسأل – وهو يتفحصني-، من يكون حضرته؟ تعرّف بي عبد المجيد قائلاً: إنه المخرج الجديد في المحطة، الأستاذ محمد كريّم … وعندما عرف أنني من بيروت “انفرجت اساريره وبدأ الود ينسج خيوط علاقتنا الشخصية…”.

ولما كان الزعني بيروتيا من الطراز الأول، محبا لبلده وشديد الاندفاع نحوها، أولاني إعجابه وصرت مقرباً اليه وازدادت مع مرور الأيام أواصر الودّ بيننا. وفي هذا السياق يقول كريّم: “كان – الزعني بيروتياً بامتياز.. وكانت في قلبه زاوية أثيرة مضيئة ومشعّة دائماً مخصصة لبيروت، فهو يهواها، ويتيمه حب ناسها وشوارعها. ومن قصائده الدّالة على هوسه بها، قوله: يا ضيعانك يا بيروت. وكانت هذه القصيدة صرخة في وجه الفرنسيين والسياسيين اللبنانيين، احتجاجاً على ما أصاب البلد من تبدل في أحوالها الاجتماعية.. لأنه كان يريدها خالية من الشوائب. وهو القائل في التعبير عن المه لواقع المدينة آنذاك:

“الخواطر مكسورة/والنفوس مقهورة/والحرية مقبورة/ والكلام للنّبوت/يا ضيعانك يا بيروت”

 

وهكذا ذاع صيت الزعني في مطلع القرن الفائت كشاعر شعبي انتقادي، بوصفه ضمير الناس وصوتهم المدوي في الدفاع عن حرمة بيروت. وقد “تهيّأت للزعنّي – كما يقول المخرج كريّم – عناصر عديدة جعلته محط إعجاب العامّة والخاصّة والكثير من الأدباء والمستشرقين” ومن أهم هذه العوامل حسّه الشّعبي وموهبته الشعرية الانتقادية، ومقدرته على رسم الصور الكاريكاتورية. وفضلاً عن ذلك فقد كان ذا شخصية جادة وصارمة، هيّأت بروزاً طاغيا على المسرح، لا سيما أنه كان يتقن الأداء الغنائي، والإلقاء الجيد، وبالفطرة دونما اصطناع أو افتعال. وقد استخدم هذه العناصر بعفوية فنجحت أغانيه الانتقادية أيام الانتداب الفرنسي “وكان يعتمد في قصائده على التوريات، فتأتي أشعاره “تحمل معنيين ظاهرا وباطنا فيقلب المعنى الى عكسه فيصبح المديح الظاهر هجواً مبطنا ومن الأمثلة التي اشتهرت من كلامه، على هذا النحو قصيدته في المفوض السامي “ده مارتل” التي قدمها في أوتيل صوفر بحضور الكونت شخصياً. وفيما يلي مقطع منها، وهو بارز الدلالة على براعة الزعني في تمثيل دور الشاعر الشعبي، يقول:

“ده مارتل / سبع الليل/نجّانا وحمانا / خلصنا من هالويل/يحيا الكونت ده مارتل/الإصلاح غرامو / العمران مرامو/أغلى من الدرّ كلامو / عدل وانصاف احكامو/شفنا الخير بأيامو / زاد الوزن وطفح الكيل/يحيا الكونت ده مارتل”.

قال كريّم في وصف شخصية الزعني وبراعته الخطابية “ونحن مهما قدرنا.. شعر الزعني، فإنه لن يصل الى ما كان يسبغه.. على قصائده حينما ينشدها بنفسه، لأنه كان ينفخ فيها من شخصيته المرحة، فيجعل الحرف الميت يزخر بالمعاني ومما يثير الدهشة والإعجاب أن الزعني كان ينتقد السياسيين وينال منهم، وكانوا يقابلون ذلك بالضحك.. ومن الأمثلة على هذه المواقف المثيرة، أنه ذات مرّة القى إحدى قصائده بحضور كوكبة من اقطاب السياسة اللبنانيين “كان فيها رئيس الجمهورية يضحك ويصفق حتى ليكاد يخرج عن وقاره، ورئيس المجلس النيابي ينظر إلى الزعني مبتسماً يحاول أن يعرف مراميه، ووزير الدفاع يضحك وقد عرف من يقصد بالنقد.. والحاشية من حولهم والأنصار جميعاً يصفقون معجبين”. ونحن نتساءل كيف كانوا يتقبلون نقده المداعب حينا والجارح في أكثر الأحيان، وينجو من غضبهم أو انتقامهم؟

“في هذا الصدد يقول عمر فاخوري في الباب المرصود إن الزعني كان يتوصل الى مطالبة بوسيلة عجيبة: السخرية. ويضيف: في مقدورك أن تقول ما تشاء لأي كان فتذمّه أقدح ذمّ ولكن شريطة أن تضحكه، فإنك إذا أضحكته جرّدته من سلاحه.

وفي هذا المضمار يقول الكاتب غلين ويلسون، معللاً تلك الظاهرة: “إن الفكاهة تقدّم لنا صمّام الأمان.

كان عمر الزعني شخصيّة متميّزة جامعة لكلّ الصفات التي تبوئه مرتبة الشاعر الشعبي المناضل، الذائد عن القيم الاجتماعية والأخلاقية والأهداف الوطنية والتطلعات السياسية، بما وهبته الطبيعة من القدرة على النقد ولو كان لاذعاً مشفوعا بالنكتة الحاضرة والبديهة والموهبة الخاصّة التي تحمل سامعه على الإعجاب والضحك فيحقق بذلك أهدافه الإصلاحية، وهو في منأى عن المساءلة، فيتفادى المواقف الصعبة بروح ومزاج مشبعين بالظرف والمزاح.

لقد كان عمر الزعني شاعراً مناضلاً كما ناضل من قبله الوطنيون الأحرار الذين قاوموا الاحتلال العثماني من أمثال عمر حمد وعبد الغني العريسي والإخوان محمصاني “الذين علّقهم السفّاح جمال باشا على أعواد المشانق”، لقد تعرّض عمر الزعني زمن الانتداب الفرنسي للمضايقة والملاحقة، وكان يعاقب أحياناً بالسجن، لكنه كان بارعاً في تحقيق أهدافه الوطنية، ولم ينل التنكيل من عزيمته في مضائه الى أداء الواجب الوطني. وقد قدّرت بيروت ولبنان بصورة عامة مواقفه وكرّمته حيّا وميتاً.

توفيق الباشا

 

توفيق باشا

الموسيقي الكبير توفيق الباشا (1924 – 2005) هو الشخصية الثالثة بين الأقطاب الأربعة من الفنانين اللبنانيين الذين عني الأستاذ كريّم بسيرتهم الحياتيّة والفنّية.

نشأ الباشا في بيئة عائلية فنّية، وقد روي أن أباه كان ” سمّيعاً ومتذوقاً للفن الغنائي. وقد تطرق كريّم إلى نشأته وتحدث عن ميوله للموسيقى فقال: في إحدى المناسبات كان يترنم وهو طفل بمعزوفة موسيقية “بشرف”، فدعاه خاله إلى إسماع ضيوفه الترنيمة عندما يلتقون مساءً “فأقنع الحاضرين بضرورة تعليمه الموسيقى”.

يقال أنّ والده كان حريصاً على مواهب ولده لكن كان له أن يسهر الليالي ليعزف وراء المغنيات في المرابع الليلية، فأدخله إلى المدرسة الإيطالية. لكن ظروفاً اقتصادية حالت دون أن يتابع تحصيله العلمي إذ إضطر الأب أن يسحب ولده من المعهد الإيطالي، غير أن الفتى النابغة “عوّض عن ذلك بمطالعته الخاصة”.

من يتتبع سيرة توفيق الباشا يتلمس العديد من العناصر التي أسهمت في إرتقائه الفني وعزفه الموسيقى. ومن أهم هذه العناصر”في المحفل الغنائي الشهري لأم كلثوم الذي كانت تبثّه إذاعة القاهرة، وكان الساهرون يتبادلون الآراء حول الألحان التي كان يقدمها أمثال الفنانين زكريا أحمد والقصبجي والسنباطي، مما أثر في تعزيز ميول الفتى توفيق نحو الموسيقى والغناء. فقد تعلّق بالغناء وأصالته وهو ينفرد بخزانة الفونوغراف المعزّزة بأسطوانات عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش وسامي الشوّا. لقد وجد في هذه الأجواء ووسط الجوّ الغنائي وفي سماع المعزوفات جانباً يرضي به ميوله وهواياته الفنيّة. فقد اعتبر بمثابة زاد من الدروس التطبيقية البدائية في الموسيقى “أما الدروس النظرية فكان يتلقاها من خلال المناقشات التي كانت تتم في “منزول” الموسيقى بإشراف خاله خليل ومشاركة الجمع من الفنانين وفي مقدّمهم صديق العائلة “زكي ناصيف”، الذي اهتم بالفتى توفيق، وطلب من خاله أن يشرف على تعليمه الموسيقى.

هكذا تمكّن توفيق الباشا في مسيرته الفنيّة من صقل موهبته بالسير في طريق الفن، ثم اختار التفرّغ غير آبه باعتراض العائلة على هذه المسيرة، باعتبار أن البيوتات العريقة لم تكن تولي هذا الضّرب من الفنون اعتبارها، بل تعتبره من المحرّمات.

 

لقد تجاوز بإرادته الصلبة وهمته العالية كل المعوقات مخططاً لمستقبله الفنّي ليحقق هدفه بوعي ونضج” فلحّن في البداية عشرات الأغاني ومئات القصائد للبرامج الغنائيّة الإذاعيّة والتلفزيونيّة وكان حريصاً أن لا يهمل الغاية التي رسمها والهدف الذي وضعه نصب عينيه ألا وهو التأليف الموسيقي، حتى بات مرجعاً في هذا المضمار.

بالدأب والمثابرة حقق الخطوات الأولى في التأليف الموسيقي، وتمكن من إعداد مجموعة من الألحان الشعبية والفولكلورية اللبنانية والعريقة، قام بتنفيذها مع الأوركسترا، ومن هذه الألحان: عمّي يا بياع الورد، قهوة بلدي، يا مايلة ع الغصون، زوروني كل سنة مرة، يا أم العباية، وطلعت يا محلى نورها. وتوالت أعماله ومن أهمها:

اصدار اسطوانة FANTAISIE ORIENTAL

وأتبعها بأسطوانة بعنوان SUITES ANDALOUSES

ثم إصدار ثالثة بعنوان TAPIS MAGIQUE

وكان من نتائج هذا المجهود الذي أرسى عنده الثقة والجرأة في الإنتاج والمثابرة في العمل أنّه أصرّ في المهرجانات التي شارك فيها كملحن وقائد للأوركسترا “على أن يكتب هو المقدّمات والموسيقى التصويرية لكل منها والذين تتبعوا سيرته الذاتية ومسيرته الفنية، أجمعوا على أن هذا الكم من الإنتاج الموسيقي كان يلقى حماسا منقطع النظير، وقد اثمرت هذه الجهود ثمارها اليانعة، وكان هذا عاملاً أساسيا لتعاونه مع إذاعة الشرق الأدنى، وقد أمدته إدارة الإذاعة بكل الوسائل اللازمة في حقل الموسيقى واللحن. ومن أهم الإنجازات التي قام بها بطلب من إذاعة الشرق الأدنى إصدار لوحات من الموشّحات والابتهالات في نسق صوفي وجداني. كما أسند إليه إعادة النظر بفاصل يعرف بـ”اسقِ العطاش” فأدى المهمة ببراعة نالت الرضى.

ومن أهم إنجازاته:

1-كتابته لآلة العود، ولم يستطع ان يلعبه إلا فنان قدير هو عبد الغني شعبان كما عهد بالأداء الغنائي الى المطرب القدير محمد غازي. ومن كلام هذه المغناة: “مولاي أجفاني جفاهن الكرى/والشوق لا عجه بقلبي خيّما/مولاي لي عمل ولكن موجب لعقوبتي/فاحنن عليّ تكرّما”.

2- إشتراكه في المعهد الموسيقي بالتدريس وذلك في مطلع الخمسينيات. وقد شاركه كبار الأساتذة من أمثال زكي ناصيف، وانطوان زابيطا وفريد غصن.

3- انفراده في المعهد بتنظيم صف الموشحات وفي المؤتمر السادس للموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة، أقرّ المؤتمر اقتراح توفيق الباشا باعتبار الموشّح مادّة علمية في تدريس الموسيقى

في العام 1953 كان توفيق الباشا واحداً من عصبة الخمسة، المؤلفة من زكي ناصيف وعاصي ومنصور الرحباني وتوفيق سكر، الذي حلّ محله عبد الغني شعبان واعتبرت هذه العصبة في لبنان على غرار عصبة مماثلة في روسيا المؤلفة من: بورديني، وكورساكوف وسيزاركوي، وموروسكي وبلكرياف.

وقبل أن نختم بذكر أعماله الكبرى، لا بدّ من تدوين بعض ما قاله الفنانون الكبار من شهاداتهم فيه. ومنها قول زكي ناصيف: “توفيق الباشا هو سيد الموشحات على الإطلاق، وقال عنه الدكتور وليد غلمية: “أنا اعتبره أحد المراجع في موسيقى الشرق العربية”، وقال الأستاذ جورج فرح: “توفيق الباشا أول من علّم الموشحات على طريقتها الأصلية”. وجاء في كلمة للأستاذ منصور الرحباني: “هو المتمرس بموسيقى الشرق وتقنية الغرب”.

أما مؤلفاته في الحقل الموسيقي أو مؤلفاته السمفونية فهي: سمفونية الليل مستوحاة من شعر سعيد عقل 1953. سمفونية فوق البنفسجية 1969. سمفونية بيروت 1983. سمفونية السلام 1985. الثلاثية المقامية 2000-2001. الإنشادية النبوية شعر أحمد شوقي 1995. وأعماله الكاملة 1998.

ومن أهمّ ما قيل في تراثه الغنيّ الخالد في الموسيقى العربية وفي الأدوار التي قام بها في الإذاعة اللبنانية وفرقة باليه الشرق الأوسط وإذاعة القدس، ما جاء في الكلام على مسيرته الطويلة في عالم الموسيقى، كما قال الأستاذ محمد كريّم: “توفيق الباشا فنان أقلع عكس التيار واستطاع بالرغم من العواصف والانواء التي اعترضته أن يرسل سفينة الى بر الأمان وجلس يراقب المسيرة الفنية في وطنه.

حسن علاء الدين

 

حسن علاء الدين

حسن علاء الدين (1939-1975)، الذي اشتهر باسم “شوشو”، هو ثالث أعمدة الفكاهة في لبنان، خلال ثلاثة عقود كما يقول المخرج محمد كريّم/ والآخران هما توفيق اسحق وعبد الرحمن مرعي.

أما كيف برز حسن علاء الدين، كممثل كوميدي، وخرج من الظلمة الى النور، فالحكاية باختصار أن حسن علاء الدين كان يلاحق الأستاذ محمد شامل، آملا أن يأخذ بيده للبروز في مسرح الفكاهة. وبسبب الإلحاح المستمر، عمد الى الأستاذ محمد كريّم بوصفه مخرجا أن يختبر مؤهلات هذا الشاب، فنجحت المحاولة ورشح علاء الدين للقيام بدور في المسرح الكوميدي الذي يتولى محمد شامل شؤونه وغمرت الفرحة قلب شوشو وخضع للعديد من التجارب بعد أن أعدّ له دور فكاهي قصير يظهر من خلال أدائه استعداده لهذا الضرب من التمثيل. وقد أدى “دور بائع المناقيش الفقير الذي يبيع الطعام للناس وهو جائع” وذلك في سياق برنامج يا مدير الذي يتولاه محمد شامل.

ومن أداء هذا الدور الاختياري، وبعد تجارب وإشادات عديدة “ارتقى شوشو سلم النجاح في البرامج التي اشترك فيها أو لعب دور البطولة”، وتمكن من الانخراط في برامج الإذاعة الكبرى.

 

ومن الإذاعة الى التلفزيون “انتقل حسن علاء الدين، الى الشاشة الصغيرة حيث حقق انتصارات فنّيّة رائعة وأصبح نجم الكوميديا بفضل موهبته، وفضل النصوص الفكاهية والاجتماعية”، التي وضعت له، ليبرز فيها.

يقول كريّم: “النجاحات الشعبيّة التي حقّقها شوشو في الإذاعة والتلفزيون وبالتالي المسرح زادت ثقة بنفسه، وزادت من طموحه”، للوصول في الكوميديا الى مستوى كبار المصريين الكوميديين، فعبر لاحقا الى عالم السينما وقام بدور شوشو والمليون، وهو قصة من اعداد وحوار محمد شامل، أخرجها للسينما الأستاذ أنطون ريمي.

وفي أجواء الإزدهار الثقافي العام سنة 1965 في سنة لبنان. وعلى خطى النهضة الثقافية في مصر، والتي كانت تمدّ العالم العربي بسيل من الإنجازات الفنّية الراقية، أصابت العدوى لبنان “فأخذت الحركة المسرحية تطفو على سطح الحياة الثقافية، وبدأت بعض الفرق اللبنانية المتأثرة بالمسرحية الغربية بتقديم الأعمال الطبيعية والكلاسيكية الإغريقية”، ظهرت حاجة الى بيروت الى “المسرح الوطني” الدائم لاستيعاب حالة الزخم الفنية المتصاعدة.

خلال هذه المرحلة، كما يقول الأستاذ كريّم، كان شوشو يتحرق شوقا الى المسرح وبلقائه الأستاذ نزار ميقاتي الكاتب والمخرج، تغلب على عقدتين أساسيتين في تأسيس المسرح المنشود”.

وفي الحادي عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1965 نشأ المسرح الوطني اللبناني الذي اتخذ مركزه في صالة سينما شهرزاد، وكان شوشو قد تمكن من الحصول على ترخيص رسمي، بعد النجاحات المتعاقبة التي تألق بها كممثل كوميدي من الطراز الأول.

اليوم المذكور شهد ولادة المسرح الوطني وقدّمت المسرحية الأولى في تلك الليلة بحضور رئيس الوزراء رشيد كرامي، وقدّم شوشو مسرحية “رحلة السيد بيلشون” المعرّبة عن الفرنسية وكان شوشو هو بطل المسرحية وأدى الدور ببراعة فائقة باسم مسرحية شوشو بك في صوفر.

ونختم هذا الحدث العظيم الذي بلغ فيه الشاب النحيل حسن علاء الدين قمة المجد بهذه العبارات المؤثرة التي قالها المخرج محمد كريم: “لكن لا يظنن أحد أن حسن علاء الدين قد جاءته الشهرة، رغم موهبته على طبق من فضة، إنما نجاحه وتألقه.. كان نتيجة الكدّ والتعب.. لكأنه في عمره القصير كان في سباق مع العمر، إذ راح يختصر المسافات دون أن يحرق المراحل”.

هذا بإيجاز كلي قصة المسرح الوطني في لبنان والدور الذي قام به شاب كان مغموراً للإرتفاع إلى مستويات الكوميديا الراقية، وهو لم يكن ليصل إلى هذه المرتبة لولا جهود المخرج محمد كريّم، الكثير من التضحيات والعون الذي دعمه فنياً وإخراجاً مسرحياً.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *