ميلاديات (1)… صانع الميلاد

Views: 737

كان ينتظر موسم الميلاد بلهفة كلّ عام. يَعدّ أوراق التقويم فيما يُعدّ أدوات صنع المغاور التي ترمز إلى ميلاد السيد المسيح.لا همّ عنده إلاّ أن يأتي الميلاد، عندها يعظم في عيني أبناء جلدته،ويصيرون إليه، يطلبون خدمته.

كان يجلس معظم أيام السنة،خارج الزمن الميلادي المقدس،أمام باب دكانه الصغير، يرسم بالموسى أشكالاً خشبية لبيوت تزيّن مغارة الميلاد حينما يأتي،ويضع في قوالب من البلاستيك المُعدّة سلفًا كمية من الجفصين لـتأخذ بعد ساعات شكل أبقار أو خراف لتوضع قرب مهد المسيح يوم يحين ملء الزمان.يقوم”الناطر” يوم الميلاد بتجهيز كلّ ما يلزم، كي لا يأتي السيد ولا يراه غير مستعد بل مستعدّا لهذه الولادة العجيبة.

كان”الناطر” يعيش أيام سنته بروتين ما بعده روتين، بانتظار يوم الفرح. ذاك اليوم الذي يسعى إليه بكل جوارحه لأنه مصدر تقوى وبآن مصدر رزقه بما يكفيه لمؤونة الشتاء القادم، بعد الكانونين ، عاصفًا وباردًا.هو ليس مقطوعًا من شجرة بل ينتسب إلى عائلة كبيرة،لكنها،كشأن العائلات كلّها، في المدينة القديمة، لا تعرف الميلاد إلا عندما يصنعه المعلم “الناطر” 364 يومًا ليعلنه بما صنعته يداه من جفصين وأدوات زينة لمغارة أو لشجرة ميلادية ترتفع في البيوت معلنة بدء العيد الخلاصي.

“صانع الميلاد” يعرف أن نجمة الميلاد تطلّ عليه بشكل يختلف عن ظهورها عند الآخرين، فهو يرقبها شهورًا طويلة من أمام مصطبة بيته المطلّة على ساحل البحر، حيث الانقشاع جيد والرؤية حسنة، وقد صار لعينيه قوة بصيرة أين منها عينا “زرقاء اليمامة”؟!إلاّ أنّ  صانع الميلاد حين هلّت أنوار التزيين، وازدانت الموائد في البيوت بما لذّ وطاب،وانشغل الناس بالشاشات الفضيّة التي قفزت عن أسوار حكايات المدينة العتيقة،وصارت تبثّ احتفالات الميلاد العالمية،من هنا وهناك،بزركشات ملوّنة وسهرات إلى طلوع الفجر حيث الهرج والمرج هو العيد،حينها ارتجفت يداه وتململ الجفصين من بين أنامله، وصدأت شفرة الموسى وأغلقت المغارة بابـها على نفسها، ولم تعد تتلألأ نجمة الميلاد في الأفق وقد غشت عينيه الألوان الباهرة.

“صانع الميلاد”كان يعرف العيد انتظارا وشوقًا. صار العيد يتكرّر على الشاشات يوميا، بين بـهرجة وأزياء وأجساد تتلوّى.صار صنع الميلاد والأعياد الأخرى صناعة تكنولوجية، غابت لمسة الحنان وعرق الجبين وسهر الدموع وثياب العيد.

فقد “صانع الميلاد”،في غمرة الضجيج الفارغ،بوصلته،لكنه بقي على إيمانه بأن مغارة الولادة باقية في مغاور تجتاح الأحشاء وتحلّ في القلب بردًا وسلامًا .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *