نعيم تلحوق ما بين رسالةٍ أكاديمية ومقالٍ بسيط

Views: 40

أ. مالك عواد

تعدّ اللغة بمثابة الوعاء الذي يحتوي كل العلوم المنضوية تحت كنفها، وأحد أهمِّ تلك العلوم علم النّحو، وانطلاقاً من قيمته حيث أنّه لم يكن علماً يهتم بتتبع علامات الإعراب والبناء فحسب؛ بل هو علمٌ يهتم أيضًا بمعاني الكلام، ومقاصد المتكلمين، وبعبارة أخرى هـو الكشف عن المعنى والدّلالة، ولا سيّما في النّصوص الأدبيّة بشكل عام، والشِّعر بشكلٍ خاص،  الذي يعدّ جزءاً من اللغة، ففي “الشّعر صورة أو تصوير وتصوّر؛ لا بدّ من دعوة القارئ أو السامع للمشاركة في تأملها، ومـا لها من رموز ممكنة في ثقافتنا”، والشّعر هو عصارةٌ فكريّة يختارها الشاعر ليخبئ المعاني في كوامن ومعالم جمالية نتذوقها عند قراءتنا لشعر جميل معبّر ومرورنا بتلك المعاني فنقول: “المعنى في قلب الشاعر”.

من هنا قرّرت أن أختار لنفسي أنموذجًا لشاعر أثّر في نفسي تعاطيه اللغة الشعرية التي يرى أنّها مليئة بالأسرار والأفكار، وهي الملجأ الوحيد الذي من خلاله يستطيع الباحث أن يلج إلى قلب المعنى ويسعى إلى اكتشافه والغوص في مكامن اللغة. وكان موضوع رسالتي (البنى النّحوية للنفي والضمير ودلالتهما في شعر نعيم تلحوق “شهوة القيامة، وطن الرّمــاد” أنمــوذجاً).

 ومن خلال قراءتي لهذين الديوانين، كان أهمّ ما لفت نظري هي اللغة الشعريّة الجديدة التي جاء بها الشاعر، حيث شكلا انعطافاً مهماً في تكوين الصّورة الإبداعية لديه.

 

 ففي ديوان “شهوة القيامة” استخدم لغة شعريّة اتسمت بصبغة فلسفيّةٍ عميقةٍ لا يستطيع اكتشافها إلا من يجيد السّباحة في بحور المعاني، حيث أصبح الغموض سمةً في هذا الديوان، وأعطى النّص دلالةً أكثر مما هو عليه وجماليّةً منحت للغة أبعاداً جديدةً أراد الشاعر من خلالها رسم لوحةٍ شعريةٍ بنكهة الفلسفة متعمقًا في أسرار الوجود واللاوجود، ومجسداً صورة المرأة بكينونتها الأنثوية التي اختزلت معاني وجدانية ووطنية ودينية. ونستطيع القول أنّ الشّاعراستطاع  تحويل هذه اللغة من لغة مكتوبة إلى لغة لها تأثيرها على ذهن السّامع، لما تحويه من قوّة في المعنى ودلالات مختلفة يرصدها القارئ، وكثافة الصور والرموز والاشارات التي امتاز بها  هذا الديوان..

أمّا ديوان “وطن الرماد” فهو انقلابٌ فكريّ وشعريّ على واقعنا المرير، وأنموذجٌ للهجةٍ انفعاليّةٍ استطاع من خلالها الشّاعر أن يحقق بنيةً دلاليةً عميقةً في المعنى والمضمون، وقد حاول تخبئة أسرار وكوامن نفسه في تلك القصائد ليُتيحَ للقارئ فرصة التأمل في خفاياها ويستخلص المعاني الفريدة التي كانت أشبه باستخراج حبات اللؤلؤ من أصدافها، و كان لي وقع التأثّرمن خلال لغته الشّعرية الرافضة مستخدماً أدوات النّفي التي مثّلت واقعاً مغايراً للمألوف ورافضاً له من زيف ما نعيشه في حياتنا اليوميّة، ويمكن القول بأن هناك دلالاتٍ مضمونة استطاع من خلالها دمج شعره وإعطائه نمطاً حسيًا ولوناً إبداعياً، وكان لتنوع الضمائرالمنفصلة والمتصلة التي توافرت في  كلا ديوانيه اللذين شكلا دلالةً خاصّةً برؤيته.

تنوّع النفي والضمير في شعره، وحاولت من خلال دراستي التنبه إلى دورهما، وأثرهما في الجملة الاسمية والجملة الفعلية داخل النص الشعري التلحوقي، وكيفية حضور وإبراز لعبة الضمائر داخل القصائد وما مدى انعكاسها على إبداع الشاعر، ومــا أثر أساليب الجمل المنفية ودلالتها داخل النص الشعري “التلحوقي”،  من هنا جاءت هذه الدراسة كمحاولةٍ للبحث في هذا الشعر من خلال الدلائل البلاغية لسياق النفي واختلاف تلك الدلائل بحسب اختلاف صيغة النفي داخل الجمل الفعليّة والجمل الاسمية، والخصائص الدلالية لورود الضمائر وأثر تنوعها في النص بحسب صيغة المتكلم والمخاطب.

وقد كان النفي في ديوانيه حاضراً بكثافة لا سيّما “وطن الرماد” وذلك ليرسم خطاً جديداً في التعبير عن الرفض بوساطة أدوات النّفي المختلفة، وليرفض أشكال العبودية والذل والخنوع، ولحظنا تكرارًا لأداة النفي(لا) لما لها من دور في التعبير عن الرفض والغضب، وكانت واضحة الاستخدام مع الفعل المضارع حصرياً وهي الأكثر وروداً لما تحمله هذه الأفعال من قلق على المصير الذي يتوقعه الشّاعر، بالرغم من تنوع أدوات النفي في قصائده، ولم يستخدم هذه الأدوات عبثاً؛ بل كان لكلّ أداة مقابلٌ دلالي تحتاج إليه القصيدة في بنائها وتكشف عن بؤس الواقع ورفض هذا المصير للأمة والتنديد به.

وأما بالنسبة للضمائر فقد شكلت حيزاً مهمّاً من دراسة تمخض فيها  الضّمير ليبرز همَّ الشاعر ورؤيته للبُعد القومي للأمة والوطن، وبنى قصائده على مرتكزات من البنى النحوية التي شملت الضمائر بأقسامها وأنواعها وأجناسها بين البارز والمستتر والمتصل والمنفصل، فلم تخلو قصيدة من قصائده من غياب الضمير، وتنوعها ما بين مخاطب وغائب ومتكلم، وضمير الأنا  كان واضحاً في معظم القصائد ليُعبّر عن ذاتيته الحزينة والمرهقة من تعب الحياة، وليؤكد أنّه مستمرٌ في المواجهة  لطالما كان القلم وما زال بخير والتعبير هو أسمى ما يحمله في قلبه وإيمانه بقضيته التي يُؤمن بهــا.

وفي ذلك أرى أن الشاعر قد نجح بالاستفادة من عوامل استخدام النفي والضمير ونجح في مقاومة سلطة اللغة ومنحها أبعادًا جديدة تناسب مفهومه ورؤيته للبُعد القومي.

وهذه الدّراسة هي محاولة لطالب علمٍ قد يخطئ وقد يصيب، فالهدف لدى الإنسان هو التّعلم بالمحاولة التي نسأل الله أن يوفقنا من خلالها ويعطينا من العلم ما نستحق.. فالعلم بحرٌ واسع، إن أعطيته كلك، يعطيك  بعضه، ولا يمكن لأيّ إنسان أن يحيط بجوانبه كاملاً، فالكمال لله وحده..

في النّهاية أرجو أن أكون قد وفقت الاختيار وأقولُ بأن قامةً شعريةً كنعيم تلحوق ليس بالأمر السّهل دراستها ومعرفة مكنوناتها المحاطة بالغموض.

(https://chiringa.com/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *