ميلاديات (٤)… موسم الغطاس

Views: 567

د. جان توما

باكرًا هرع إلى الكنيسة لكي لا يفوته شيء من صلاة تقديس الماء،احتفاء بمناسبة عماد السيد له المجد.لم يفته شيء من تقاليد العيد ليلة الأمس، فقد جلس إلى جانب النسوة”المقرفصات”،يعجنّ الطحين كرات، ويسقطنه في طنجرة الزيت المغلي،فيغطس ويخرج معمّدًا بـهذه الذكرى.

لقد أحرق أطراف أصابعه وهو يلتقط بعض هذه الكرات من الصحن الكبير بعد خروجها من الزيت الملتهب، تتلمّظ لها الشفاه وتنـزل،رغم سخونتها، طيبة في المعدة، منعشة للقلب.؟إنّه الغطاس، اركضوا،يا أولاد، إلى الكنيسة مع الأوعية لتعبئة الماء المقدس،وسط التراتيل والضجيج الشعبي المؤمن.كلّنا بصوت واحد:”باعتمادك يا ربّ في نـهر الأردن….”ومن نسي الكلمات تمتم ودمدم وحرّك شفاهه أدعية وطلب بركات.

لم يعرف كيف ملأ السطل الأول من جرن الماء المقدس، وهرع به إلى بيته لتشرب منه جدته،طريحة الفراش منذ سنين، متبرّكة،مصليّة، ثم إلى أمّه فأفراد عائلته. سريعًا فرغ السطل من الماء،فالمورد العذب كثير الزّحام .”هيّا بسرعة إلى الكنيسة”، ومن جديد يملأ الصبي وعاء مليئا من الماء المقدس ويعود إلى بيته ليكتمل التبرّك العائلي ببركات هذا الماء،في الموسم المقدس.لكنه كان يعرف،في قرارة نفسه، أن الماء المحيي لا ينضب،وأنّ الإيمان كفيل بإنعاش الأفئدة المتصلّبة ويقوي الرُّكب المخلّعة.فها جدّته المطروحة في الفراش منذ سنين كلّما غسلت وجهها بالماء المقدس يتجدّد كالنسر شبابـها،وتشعر أن قوة خفيّة قد شدّت من عزيمتها،فتروح تسرد بحيوية أهم مفاصل حياتـها،وتعود لتصدر أوامرها إلى أهل البيت كمن يستعيد سلطانا بعد زوال.

كم كان مسرورًا حين أرسلته جدّته ليلة أمس ،عند منتصف الليل، إلى ساحة البحر المجاور لبيته ليملأ لها وعاء ماء لتغسل عينيها إيمانًا منها أن ماء البحر يحلو عند منتصف الليل،حيث يمرّ السيد المسيح ليبارك المعمورة.وكان يُسرّ أكثر عندما يرى أمّه تضع قطع النقود الفضيّة عند حافات النوافذ تباركًا ورغبة في زيادة المال، فيقوم صباحًا بلملمة النقود بعدما تباركت ليتبارك هو بـها صبيحة العيد.

كان كلّ همّه،يوم الغطاس، أن يلتقي أصدقاءه وهو مليء الجيب، ليشعر بعظمة الأعياد، لذا كان يُسرُّ كلّما سمع والده يقول:”جَيْب تمام،عيد تمام”.ولكنه كان يعرف أنّ الحبّ المتبادل،في غمرة العيد،هو أساس العيد، وأنّ الفرح الغامر قلوب المحتفلين به هو حجر الزاوية لكلّ بشرى سارّة.كان يشعر أن رباط السلام الذي يلفّه ليلة عيد الميلاد البادرة يأخذ من خيوط شال جدّه زادًا دافئًا، ويحسّ أن حيوية خدمة العائلة لجدّته المريضة هي من الكنوز الدفينة التي لا تنقشع إلا إذا قامت نجمة الميلاد وحوّلت المغارة المظلمة في كلّ منا إلى انفجار الصبح.كان يرى في استدارة وجه جدّته المتُعبة قمر العيد وأرجوحة الفرح وتقاسيم”عوّامة” على أوتار زيت الإيمان الشافي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *