يوميات بلا أيام

Views: 358

“يوميات بلا أيام “ كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول الكتاب على حلقات. في ما يلي الحلقة الثامنة.

 

د. جوزف صايغ

 باتَ مفهوماً أنَّ الأدب هو غَمُّ تُسيطر عليه قواعد اللُّغة.

La Littérature – C’est affaire entendue – est un chagrin dominé par la grammaire.

 Jean d’Ormesson

 

إلى من أتوجّه عندما أكتب؟

لا أعرف… أو أعرف جيداً! إلى مجهول أتصوّره معلوماً. معلوماً غامضاً. إلى أيّ حدٍّ لا يؤثِّر القارئ، هذا المجهول المعلوم، في النصّ إذا كان معروفاً سلفاً؟ مستواه بالأقلّ؟ مخاطبة المجهول مطلقاً تكاد تبدو، من جهة ثانية، شبه مستحيلةٍ، فهل عملية التزوير محتومة؟ قد يشتقّ الكاتب من نفسه مخاطباً… لُعبة لا تحكمها أُصول. مُربكة. على حدود الإرهاق. لا يُحرِّر منها غيرُ أنْ نلعبها… ونلعنها.

وحدها لغة الرياضيات هي لغة الآلهة.

أكتب مغامراً، جاهلاً، مرتاباً في الكتابة مُشكِّكاً في ما تقول. لماذا إذن؟ آخر همومي إصلاح الناس وتغيير الدنيا. هذه مهمة خالقها، ولا يهمّني أن أختلس منه هذا الامتياز. السرُّ أنَّ الكاتب مسلوبٌ، مَلْبوسٌ، يُهرول في أمداء لا يرى أطرافها… ويَلْتَذّ. وإن لم تكن لذّةً، فمُداواةٌ، أو مخدِّرٌ، مخدوعاً باقتناعه أنه أنجز عملاً.

الشعراء وحدهم يعرفون لماذا يكتبون: ينتجون جمالاً. والجمال يبرِّر كل شيء.

أستثقل الاستعلاء، الاستكبار الذي يميّز الشعراء والفنّانين، والمبدعين إجمالاً، ولا نجده عند العلماء.

طبيعيٌّ أن يأخذ المبدعَ زَهْوٌ بإبداعه، فقد اختلس مهنة الله، ومثله يشعر بغبطة الخلق. المزعج أن يتحوّل هذا الشعور غروراً، وغرغرةً بالنجوميّة.

الاشتغال بموادّ التعبير يسهِّل تجاوز الذات إلى ما فوق ذاتها. لأن الكلمة عند الله تقوم مقامه غالباً، بينما العلماء، الذين يعالجون مادّة الكلمة، يحُدُّ المحدودُ من غلوائهم.

‏*‏

كتبت كثيراً. ولم تكن الكتابة عندي تعني غير الشِّعر. النثر أتيته متأخّراً، وللحاجة. فالنثر في نظري مشبوه لأنه نفعيّ، يهدف إلى أغراض نفعية، إن لم يكن إلا الإفهام، بينما لا هدف للشعر إلا الشعر، أي الجمال.

نثراً، طرقتُ مواضيع كثيرة… إلا واحداً: أنا. لم أتّخذ نفسي موضوعاً للمعرفة رغم وصيّة المعلّم سقراط: “إعرفْ نفسك بنفسك”. منذ سقراط إلى اليوم هل فعل أحد أكثر من هذا؟ وصيّةٌ كلّما تفكّرت فيها لَعنتُ صاحبها. أهملتُ نفسي سهواً. أو خفراً. أو لعدم اعتبار الموضوع مهمّاً. مع أنّي موجود، وجميع ما كتبتُه نتيجة لهذا الوجود!؟

من أنا؟ أطول مسافة إلى أقرب مكان.

قد تفي السّيرة الذاتية بهذا الغرض، إذا استطاع الإنسان تطهير نفسه من الكذب على نفسه، وعلى الناس، ونزع الخَفَر. لكن ليس في حياتي ما يستأهل التدوين، رغم يقيني بأن حياة أي إنسانٍ كان تستأهل التدوين، أو الرواية، شرط أن يتوفّر لها الأسلوب. فالأسلوب يصنع أدباً، والأدب مبرِّرٌ مقبول.

هل هذا هو الجواب عن تساؤلي لماذا أكتب بعد كلّ ما كتبت، وفي هذه الأيام الأخيرة من الأيام، حيث الجوهرةُ هي الجوهريُّ، وحيث النزاهة تقتضي الكفّ عن هذه المغامرة، في مثل هذه السِّن؟

ماذا أريد إذن؟ ماذا أبغي أن أقول وما قلتُه بعد؟ لا شيء. أكتب. وهذا أصعب القول: قول اللاّشيء. قول لاشيء تتوجَّس أنه شيء. وشيء يُقال!

قلت كلَّ ما أريد قوله شعراً.

الفكرُ، والفلسفة ذاتها في ذلك الشِّعر، تَشَعْرنا. فلماذا إذن؟

‏*‏

دخلتُ الكلمة كما إلى دير. مؤمناً، مُترهِّباً، ومُعتزلاً. مُعتزلاً العالمَ، مختاراً الكلمة التي تُسمِّي الشيءَ، فيكون. كان للكلمة في نفسي سحرٌ غيَّر أشياء العالم، والعلاقات، وما بعد. إرتحتُ، بدايةً، إلى كسل الاستمتاع بالمطالعة، والاستزادة، بسهولة، من الاستعلام عمّا كان يسائلني من أمور الحياة. مرحلة مُترَفَةٌ طالت، وشغلتني عمَّا سواها. فلمّا شارف العمرُ نهايته، راعني أني ما تفرَّغت كفايةً لمن تفرَّغوا لي، لتربيتي، ومحبَّتي، والعناية بشؤوني. لم أبادلهم عطفهم، ولا أعدت إليهم شيئاً من فضلهم، وانتباههم. أقول في نفسي ليس الحقُّ على الكتاب والكتابة؛ وأستدرك فوراً: على من، إذن، الحقّ؟ كان في إقبالي على الكتاب، على الشّعر خصوصاً، شيء من الانانية، وإيثار المتعة الأدبية على وفاء دَين عاطفي لمن سلَّفوني جميع عواطفهم. كُثُرٌ الذين يقرأون ويكتبون ويكرِّسون حياتهم لهذه الصَّرعة. قِلَّةٌ الذين القراءةُ تقرأَهم، والكتابةُ تكتبهم، وهواهم يَستهلكهم. تنسلخ عن نفسك وتتقمّص كلاماً، فيتقمَّصك كلامُك، فتصيره ويصيرُكَ، ويَطرد ما عداكما خارجاً.

تلهث وراء الظِلِّ، وتنسى الشجرة.

‏*‏

بالجسد يُكتب الكتاب. بالجسد كلّه يُكتب. الجسدُ رِيشةٌ، والفكر عُصارتُه: حِبرٌ سائل على الورق. بأفكاره، بانفعالاته، بيقظاته، وغيبوباته، بكامل وظائفه وهواجسه ومخزونه الثقافي الوجودي الكامن في لاوعيه، المُسجَّل في باطنه وخلاياه… يَكتب الكاتبُ. تعبئةٌ شاملةٌ للجهاز العصبيّ تُشارك الدماغَ الإملاء. حَشْدٌ للطّاقات يحوِّلها حروفاً، وبُنى، جُملاً، وخَلَجاً مُضطرماً.

النوم يضطرب. الغذاء يختلّ. الاستهداء إلى القول يُصاب بمثل دُوار. القول يستبق الفكر إلى القول كأنْ ثمّة من يقول غيرك. آلةٌ تَعمل بذاتها، بمعزل عنك، عن الدِّماغ. الدِّماغ مُكَهْرَبٌ باللُّغة، بالجَرْس، بعَصْف عاطفي. كأنما الكتاب يُكتب بمعزل عن كاتبه. يُنشئ نفسه بنفسه.

أبمثل هذه الحمّى كان يُصاب من صرعه الوحيُ؟ من خاطبَتْه السماء؟ أم انَّ سماء الشاعر في دخيلته.

عن مثل هذه التجربة صَدَرَ “آنْ – كولين”.

مِنْ نزْف الجسد، وتصدُّعِ الأعصاب، نجمةٌ تتألّق.

‏*‏

اللّغات في العالم تتقلَّص على غرار المسافات. تكاد لا تبقى غيرُ الانكليزية لغةً لمن يريد أن يبقى في العالم. اللُّغات الأخرى “الحيَّة”، لغات الثقافات التقليدية، تتحوَّل لُغاتٍ إقليمية، حدودية: على أطراف العاصمة اللُّغويّة العالمية الواحدة. المثقَّف اليوم هو من يمتلك الانكليزية، ولو خسر كنوزاً ثمينة في اللُّغات الأخرى. كنوزاً ليست في الانكليزية: لا بأس. غير مهم. المال أهم. المال يقرّر مصير الثقافة والمثقفين، كما يقرّر مصير العلوم، والتقنيات، والتقدّم.

عُقدتْ هذا الشهر (أكتوبر 2014) ندوة جامعية في باريس حول “النظريات اللُّغوية عند العرب”. كان الكلام باللُّغة الانكليزية. إستغربتُ، وسألتُ سيّدة من منظمي الندوة، وهي صديقة جامعية، عن السبب، فأجابت: “اخترنا الإنكليزية لأننا نريد أن نجد ناشراً يَطبع لنا المداخلات ويوزِّعها”. وأضافت: “لو كانت الندوة بالفرنسية لَعَسُر إيجاد ناشر”.

*

 الأدباء اثنان: واحد يكتب موهوماً بالرجاء، وواحد يكتب ميؤوساً بفقدانه.

أطول مسافة هي تلك التي بين الصِّفر والواحد. مسافة ما بين العدم والوجود. الجهل والمعرفة.

حَرْبة زينون.

‏*‏

لا تنظرْ إلى ذروة الجبل الذي تتسلَّقه، فتُصاب بالوهن. قطِّعِ المسافة تقتربْ من الذروة.

‏*‏

قد يكون الجهل بأصول اللُّغة سبباً للابتكار. أو حظًّا بلغة غير المألوف في اللغة. لغة مطعَّمة بجديد يجهل – أو يتجاهل – القواعد. لَفَتَني ذلك في عدد شهر آذار 2016 الأخير من مجلة “الحركة الشعرية”، التي يصدرها في المكسيك العاصمة الصديقُ الشاعر قيصر عفيف. المآسي العربية ذات أثر واضح في هذه النصوص المأساوية. عدد من الكتاب السوريين غيَّروا لغتهم البعثية السعيدة. هل ثمّة رجاء بعروبة جديدة في هذه “الحداثة”؟

‏*‏

ماذا يمكن أن يكون نصٌّ مجرَّد؟ نصٌّ عارٍ من ثيابه اللُّغوية المزركشة: كالصفات، والتشابيه، والاستعارات… وربما المُحسِّنات أيضاً. نصٌّ عاطل من جميع ما عدا المعنى. شيء جدير بالفضول.

ثمَّةَ كتَّاب تقرأهم، فتُشعل قراءتُهم القناديل في مخيلة القارئ. بول ڤاليري، مثلاً. تتساءل، في صدده، إذا كانت قراءته لقاحاً، أم قابلة.

‏*‏

عبقرية المأساويين الأغارقة أنهم ألغوا المسافة بين الآلهة والبشر. بلغوا من أنفسهم أقصى تشابهتْ فيه الآلهة بالبشر.

آلهة الأولمب بلغوا الذروة من أسفلها: من الإنسان.

‏*‏

يسترشد الأدبُ بالكلمات إلى معرفة العالم. أتوسَّلُ الكلمات لاستحمال العالم. لتغييره بمثل تعاويذ وأُخَذٍ اسمها الشِّعر. الشِّعر صناعة الجمال، والجمال ترياق التعالي على المآسي، على العالم. فداءٌ للعالم. الفنُّ وحده مؤهَّل ليجعل الإنسان يَسْتحمل وجوده في ما يُلغي وجوده.

‏*‏

قد يكون هذا ما يفسِّر شغفي بالكلمات. الكلمات المَبنيّة خلافاً لبناء العالم. لسدّ نَقْصٍ في العالم. آثرتُ الكلمة على الشيء الذي تقوله الكلمة. طريقٌ إلى الغزل بالحبيبة أكثر ممّا للحبيبة.

إنحراف…

‏*‏

هكذا، أكتب. أكتب كثيراً. كمن يتداوى بالكلمات هرباً ممّا ليس الكلمات. الكلمات تحمينا من أنفسنا. من الآخرين. ممّا ليس هي… من الموت، ربما؟ الكلمات مسافات وهمية، ومخدِّرات مُطَمْئنة. نُجيِّشها ضدَّ الدنيا، أحياناً ضدّ أو مع أنفسنا…

الكلمات حقيقة وجودية.

العالم كلمات.

‏*‏

أكتب لُغةً عاصمتها الثقافية صنعاء! أكتب بلغةٍ صنعاء عاصمتُها الثقافية، فيما عاصمتي الثقافية باريس!

أكتب لغة عواصمها الثقافيَّة والروحيَّة هي العواصم الشرقية، بينما عواصمي الثقافية والروحيَّة هي عواصم أوروبيَّة! أكتب بلغة تسترفد بُنيتها الحضارية من حضرموت واليمن والرياض، بينما لغتي تسترفد ماويّتها الحضارية من أثينا وروما وبيزنطيا وأورشليم وباريس وسائر الغرب. فأين، أين ألتقي بنفسي؟ أين ألتقي بقرّائي؟ على أي خطٍّ من خطوط الطول والعرض، على أيّ قُطب ألتقي بهذا الذي يُسمَّى يوسف، أو جوزف بركات الصايغ؟ انتحار ثقافيٌّ باهرٌ أن تكون أنتَ، وما لستَ إيّاه!

‏*‏

من النصوص ما توازي كتابتها تسلُّقَ الإڤرست. نصوص تستدعي هواءً مُؤَكْسجاً أضعاف الأضعاف لاستهلاك الرئتين والخلايا الدماغية.

تَسَلُّقُ الأطواد العصيّة وقَنْصُ الكلمة القصيّة سيّان، وسيّان قهرُ الصعاب الجبلية، واستنهاض جملة من أعدامها اللُّغويَّة.

ثمّة قُرْبى بين الشّكل الجبلي، والشكل الأدبي يَجدر استغلالها.

‏*‏

المفردة تتجلّى في الجملة؛ الجملة تكتسب الفرادة من عبقريّةِ صياغةِ المفردات، بلوغاً إلى الشكل الفريد، الغِرّيد. كلّما أمعنتُ في مطالعة الفيزياء الكوكبية، تأكّد لي أن كلّ شيء هو اللاّشيء كلّه. مثل الألف. الألف العارية، التي لا تلفظ. في البدء كانت الألِف، والألِفُ كانت بداية الأبجدية، والأبجدية كانت عند الألِفِ ألِفاً، ألِفُ الأبجديَّة التي بها كلّ الكلام. فإذا عادت نفسها فقط، ولا شيء غير هي، عادت لا شيء. لا تلفظ ولا تعني. مع ذلك، الألِفُ حرف البداية وحرف النهاية معاً: فالياء هي ألف مقلوبة، أو مقصورة. والقَصْرُ كناية عن الكلّ مختصراً… بنفسه! الألف تنتظر الهَمْزَ لتكون. فكأنها البداية أو الإمكان، ينتظر تلك الخصوصيّة (la particularité) لكي يكون. خطٌّ عموديّ، مستقيم، عار، مجرّد، لا معنى له ولا دلالة، لا يُعْرَب، ولا يُصرَف، ولا يَفيد… لكن يستحيل الاستغناء عنه. فهو المبتدأ والمنتهى. مجرّد كرسي للهمزة. ولكن ما الهمزة دونه؟ سبحان الألِف في ملكوتها.

*

أنتكون مُجلّياً لأنك سبّاق، وليس لأنّ منافسك مقصِّر. لا يكن سبب نجاحك فَشَلَ غيرك. لا يكن مصدر قوّتك ضعف السِّوى.

‏*‏

كلّ جيل جديد يشعر بأن عليه أن يجدِّد العالم، أن يُغيّره. لشعوره بأنه، كجيل جديد، مختلف عمّن سبقه من أجيال، وأنه أفضل. كأنما الجدَّة ضمان جودة. أُلاحظ هذا في مجال الفنّ، خصوصاً معارض الازياء، حيث التجديد يوهم الفنان بالابتكار، وربما بالتفوّق، وليس هو إلاَّ مُغيِّراً.

قد تترسَّخ، وتتطوّر، هذه النزعة لدى البعض من الشعراء، حتى الشعور بالنبوّة – أو بالألوهة! بعضهم يكتفي بغرابة الهندام ليؤكّد غربته عن الآخرين: شَعْرٌ كثٌّ، أشعث، تَأَنُّقٌ في الرثِّ من الثياب، القذرة أحياناً… الاشتغال بالكلمة يُدني من بارئها.

مصمّمو الازياء النسائية ذهبوا في هذا المجال بعيداً، بحيث اعتبر بعضهم استلهام التصميم القديم جرأةً في التجديد.

‏*‏

كلّ جديد يؤسّسه قديم. كلّ مدنية تؤسّسها بربرية.

‏*‏

مراجعة التاريخ البشري تُعطّل الأحكام. مع العمر، والتمعُّن في آليات التاريخ، أراني عاجزاً، أو غير عادلٍ، في الوقوف إلى جانب حقيقة ضدّ حقيقة، عازفاً عن الحكم لأحد على أحد. لا أفضِّل أحداً على أحد: الجميع متساوون في الخير والشر. في الصواب والخطإ. كلّ شيء نسبيٌّ، وآنيٌّ، كل خير يحمل معه شرَّه، والعكس. يُقال الشيخوخة تعلِّم الحكمة. ربما لأنها تُغلِّب الحيادية لديك، فتجعلك متفرِّجاً، كما من خارج، على عجيج الناس، وسخف العقائد، وبلاهة المواقف… ولأن الإنسان ذاته جزء جوهريّ من هذه المهزلة.

‏*‏

يبقى الكتاب العربيّ صامداً ما بقي العقل العربيّ جامداً – المحافظة تَحفظ. يوم يتحرّك العقل العربي، في ذلك اليوم قد يبدأ الخطر على الكتاب، وعلى العقل.

‏*‏

قرأت اليوم([1])، أن بعض البيولوجيين الاميركيين، (طبعاً)، من مهندسي الجِيْنات اكتشفوا أن 96,45% من خلايا الإنسان هي ذاتها عند الحيوان، تحديداً عند فصيلة من القِرَدة تسمّى Bonobus، ممّا جعل بعضهم يقترح إدخال تلك الفصيلة تحت تسمية الإناسHomo. تتساءل، بعد هذا، ماذا بقي للإنسان من الإنسان؟!

من إذاعة “فرانس أنفو”، في 26/9/2003، عند العاشرة صباحاً، النبأُ نفسه تقريباً، إنما عن الجُرَذ، اكتشفوا ذلك بمناسبة استنساخ عدد من الجرذان لأغراض طبّية.

Ecce Homo.

*

 كانت اللُّغة العربيَّة كميناً منصوباً للعقل. كميناً كلامياً لا يُقصَد به غير الكلام. الفنّ للفنّ. تَفَكُّهٌ بفِقْه. فخٌّ لا يمكن الخروج منه. لا خروج من اللُّغة – الأم لأن لا لغة – أم إلا واحدة. يمكن أن نكتب بأكثر من لغة. نثراً. وأمّا الشعر!…

الكتابة بالعربية تتحوَّل انتحاراً للكاتب. أصحاب المستوى من القرّاء يقرأون بلغات اجنبية. قرّاء الكتاب العربي هم أقل بملايين الاضعاف من عدد الكتب المنشورة بهذه اللُّغة. اليوم، من يخرج إلى العالم بغير الانكليزية هو نصف أُمّي. علماً بأن كنوز الفكر البشري لم تكتب بالانكليزية. شتّان.

هل هي لعنة الشعوب السامية تصيب لغتهم أيضاً. شعوبٌ اضطهدتها الشعوب على مدى التاريخ، ولغاتُها اضطهدت شعوبَها؟

‏*‏

الجاهل يجهل جهله. هذه سعادته. لكنها شقاءُ غيره به. الأدهى أن التعليم لا يُلغي الجهل: الجاهل يسخّر العلم لجهله. كأن المعرفة في عِبْرٍ من التعليم. شعوب بأمِّها بقيتْ، بعد الوصاية عليها، وصيّةً على الوصاية!

لا هي تعتبر الآخر غبياً. ولا هي تَنسى أنه كذلك.

‏*‏

  طبيعيّ أن يتأثّر القارئ بنصٍّ يُشعره بتعاطف فكري، أو عاطفي، مع كاتبه فيؤثِرُه. نحبّ ما يُشبهنا. أو ما نجهل أنه يُشبهنا ويَكشف لنا عن مشابهة. إن لم يجد القارئ شيئاً من نفسه في النصّ المقروء عَسُر عليه الاستشفافُ له، وقبوله.

تقرأ نصوصاً تستسيغها طوال زمن ثمَّ، فجأةً، تعزف عنها. لا هي شاخت ولا أنت. مع ذلك!… هل هي الذائقة؟ لكنك رَبيت على تلك النصوص، وربَّتْ ذوقك الأدبي؟! فماذا حصل؟ تُهملها نهائياً كأنها لم تكن جزءاً منك، ولا كنت جزءاً منها. كأنّما للُّغة هويّة هي طبيعتها التي ما فوق اللُّغوية. كأنما لها روح تُؤاخي أو تُجافي روحك، تُجافي أو تُؤاخي الخالد في إنسانك.

هويّة اللاّغي من هويّة اللُّغة. فأيٌّ منهما غيَّر هويّته وهواه؟ وكيف يحصل، أو يمكن، ذلك؟ ما هو الذي يتغيّر في اللُّغة، أو في الإنسان حتى يتغيَّر اللِّقاء؟

‏*‏

 ما إن نُباشر الكتابة حتى تحتلّ اللُّغة وقواعدُها مكانَ العالم ونواميسه. نروح نرى إلى الكلّ في مرايا المفردات. القارئ الذي يقرأني يدخل معي في مغامرة لا أعرف لها اسماً بالضبط. مغامرة، أو مجازفة، أو لعبة مخادعة: إلى أي حدّ أنا مخدوع بما أقول، والقارئ مخدوع بما يُصدِّق؟ لقد تواطأنا، كلانا، على رهان: التفاهم. تفاهمٌ لا يحصل إلا على نحو سوء فهمٍ يعتبره كلانا فهماً صحيحاً. هذا الضِّيْق، هذه المجازفة، أنا تحرّرتُ منها بصياغتها. يبقى على القارئ أن يتحرّر منها بقراءتها. هكذا نلتقي حيث اللّقاء افتراض دائماً منشود… ودائماً مفقود. النصوص تختار ضحيّتها: متحرِّراً، أو متعبِّداً. وإذا كان النصّ يكشف الكاتبَ للقارئ، فإن قراءته تكشف القارئ لنفسه.

نصوصي، هنا، هي نصوص متطرِّفة. لا أحبّ الاعتدال لأن الحرارة تنقصه، والمنطق يعقِّده. بطبعي متطرّف. متحمّس. الكلمة المعتدلة تشبه حجراً بركانياً بَرَدَ. كلمة العشق كلمة محرورة، جانحة. مجنَّحة. عاشقة. والعشق طاقة وجُنوح. ما هي ضمانة جميع ذلك: المنطق السليم، أو الانفعال الصاعق؟

قد يتوجّب عليَّ الاعتذار إلى القارئ عن اعتدائي عليه بالنثر…

‏*‏

الكاتب مكتوباً.

يبدأ بأن يكون موضوع نفسه، ثمّ يستوضح الآخرين. يكتب ليعبّر عن مكابداته شعوراً منه بأنّ لديه ما يقوله، أو أنّ ما يعانيه يستحقّ أن يُقال… من ثمّ يروح يَعبر – عِبْر ذاته دائماً – إلى التعبير عن الغَير. هذا ما يظنّه. أو ما يَنويه. لكنه، حتى في هذا، يبقى موضوع ذاته.

لا أحد يكتب، في النهاية، إلا سيرته الذاتية.

‏*‏

في نهاية ما هي، الكتابة هي عمل إرهابي. إختلاس الأداة “التي كانت عند الله”. لهذا فالكاتب مُرتَهَب بالكلمة التي يكتبها. مرعوب لأنه لا يملك إلا كلمة؛ والكلمة، في نهاية ما هي، نافذة على العدم. المعنى نفسه يُشبه العدم. العدم الذي منه كان. المعنى نفسه يُشبه العدم لفقدان العلاقة التأسيسية بينه وبين الكلمة التي تعنيه. المعنى اتفاقي. هيكلي. فكيف نداني المعنى بسوى المخاطرة إلى أبعده؟ من أقصاه إلى أقاصيه…

يتمّ ذلك على نحو ما يمكن قوله إننا عندما ندرك الكلام نبلغ الصمت.

ويكون كلّ شيء قد تمّ.

‏*‏

([1]) 26/6/2003.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *