أسرار وطموحات لبنانيّة ١٩٥٠-١٩٧٠!!

Views: 497

د. إيلي جرجي الياس

 (كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ)

رئيسان مُلهمان، وعهدان ذهبيّان، حيث تميّز لبنان، بالاستقرار السياسيّ والنموّ الماليّ والازدهار الاقتصاديّ، رغم أزمات قاهرة ومخاطر عابرة: الرئيس كميل شمعون (١٩٥٢-١٩٥٨) والرئيس الجنرال فؤاد شهاب (١٩٥٨-١٩٦٤)… رئيسان لا كيمياء شخصيّة بينهما، ولو أنّهما غموض الإعجاب القياديّ عن بعد يتبادلان، يكادان في الأساليب والمسارات يختلفان، لكنّ عهداهما رغم ذلك يتكاملان، إلى أفضل حدّ من النجاح والأمن والأمان بلغه لبنان… هذا زمن الإنجازات والطموحات، فلا بدّ من رصد الأسرار وتعقّب المفاجأت… 

كانت رؤية الرئيس كميل شمعون – الملقّب بالنمر بسبب عشقه للعمل العامّ بانتظام وشجاعة – أنّ لبنان المستقبل هو وطن الاقتصاد المنتج والمتألّق، لذلك يجب البدء بتعزيز الاقتصاد اللبنانيّ على كافة المستويات: الزراعة والصناعة والتجارة، وبالإضافة إلى ذلك تطلّع أن تكون بيروت العاصمة الماليّة للعالمين العربيّ والشرق الأوسطيّ!! فعمل على التخفيف من وطأة الخلافات السياسيّة في الداخل اللبنانيّ، مقابل تعزيز العلاقات اللبنانيّة الإقليميّة والدوليّة، فعزّز صداقات لبنان مع محيطه الإقليميّ كسوريا والأردن وإيران والخليج العربيّ… وفعّل حضور لبنان على المستوى الدوليّ، انطلاقاً من علاقاته المتقدّمة مع الأميركيّين والبريطانيّين، فكان واسطة الحوار بين الرئيس الأميركيّ الجنرال دوايت آيزنهاور والرئيسين الأرجنتيني الجنرال خوان بيرون والإسبانيّ الجنرال فرانسيسكو فرانكو… واستثمر نجاحاته الديبلوماسيّة العالميّة، في استقطاب الأموال الأوروبيّة والدوليّة، المعلومة أو المجهولة المصدر، إلى المصارف اللبنانيّة، خصوصاً مع إطلاق قانون السرّيّة المصرفيّة في بيروت سنة ١٩٥٦… فانطلق لبنان واثقاً وجريئاً في المجالات الاقتصاديّة، وعمّت البحبوحة الجوانب الاجتماعيّة للحياة اللبنانيّة… 

الرئيس كميل نمر شمعون

 

كانت استراتيجيّة الرئيس كميل شمعون، تنطوي على مغامرة ضروريّة ولو صعبة، وعلى مخاطرة كبرى للغاية… ففتح المجالات الاقتصاديّة والمصرفيّة اللبنانيّة على المسارات الماليّة العالميّة، يجعل الوطن المستقلّ حديثاً تحت أنظار الدول العظمى وجيرانه، فكيف إذا كان على حدود لبنان الكيان الإسرائيليّ الغاصب؟ خصوصاً أنّ النهضة الاقتصاديّة اللبنانيّة كانت جبّارة وسريعة… وقد تبلور ذلك، مع أحداث ١٩٥٨ الأهليّة المؤسفة، بما يشير إلى تورّط الخارج في أحداث الداخل، لإحداث الشرخ المطلوب الذي يجمّد النموّ الماليّ والاقتصاديّ في لبنان… إلّا أنّ وصول القائد التاريخيّ للجيش اللبنانيّ الجنرال فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة، منح لبنان الأمل اللازم والفرصة المتجدّدة للنجاح، بما عُرف عن الرئيس الجديد من خبرات استراتيجيّة لضبط الوضع العامّ، باتّجاه الازدهار المُستدام، مع اعتماد استراتيجيّة شهابيّة جديدة وشاملة…

رغم غياب الكيمياء الشخصيّة بين الرئيسين الجنرال فؤاد شهاب وكميل شمعون، فقد قدّر الرئيس الجنرال قائد الجيش اللبنانيّ منذ الاستقلال والرجل الرؤيويّ والاستراتيجيّ، أهميّة النموّ الاقتصاديّ في لبنان كمدخل إلى استقرار سياسيّ وبحبوحة ماليّة وازدهار اقتصاديّ شامل، ولكنّه أضاف إلى هذا المجال بعداً ضروريّاً: الحضور الاستخباريّ المركّز والامنيّ المطلق، للجيش وكافة قوى الأمن في لبنان، وخصوصاً المكتب الثاني الدائرة الاستخباريّة الأقوى والأهمّ… وسيكون الرئيس شهاب المنظّم والمشرف والساهر على حيويّة لبنان الفائضة في كافة المجالات، إلّا أنّ أطماع الدول الكبرى في المنطقة والعالم وأجهزتها الاستخباريّة ستزداد للإيقاع بلبنان المستقلّ والمزدهر، والذي بات منتصف ١٩٦٣ ينافس الولايات المتّحدة الأميركيّة وألمانيا الغربيّة وسويسرا على زعامة العالم اقتصاديّاً ومصرفيّاً وماليّاً…

الرئيس شمعون وزوجته زلفا تابت

 

بالمقارنة بين عهدي الرئيسين الجنرال فؤاد شهاب وشارل الحلو، على كافة المستويات وخصوصاً الاقتصاديّة، يظهر جليّاً أن النموّ الماليّ متواصل والازدهار الاقتصاديّ مستمرّ، على مدى ١٢ عاماً هي الفترة الزمنية لولايتي الرئيسين، ولكن مركزيّة القرار والحضور المُطلق للرئيس الجنرال شهاب أبعد لبنان بالكامل عن الخضّات الاقتصاديّة أو السياسيّة التي لها تداعيات ماليّة، بينما في الفترة الممتدّة بين سنتي ١٩٦٥ و١٩٧٠ تعرّض لبنان لأزمات سياسيّة عابرة وخضّات اقتصاديّة قاسية، ولكن أمكنه الخروج منها بفضل القدرات النقديّة اللبنانيّة الاحتياطيّة ومتانة علاقاته الدوليّة في مجال المال والأعمال… ولكن كلّ ذلك شكّل إنذاراً مبكّراً لما سيحدث في لبنان على المستويين السياسيّ والاقتصاديّ لاحقاً وتباعاً، بعد سنة ١٩٧٠…

لقد سمحت القبضة الأمنيّة المُطلقة للمكتب الثاني اللبنانيّ، والحضور الفاعل للجيش اللبنانيّ وقوى الأمن الداخليّ في عهد الرئيس فؤاد شهاب، من أن يصبح هذا العهد عهد بناء الدولة اللبنانيّة، عبر إطلاق سلسلة من الهيئات الإداريّة والرقابيّة، بما يفعّل الحياة العامّة ويرفد المجتمع اللبنانيّ بالرخاء والبحبوحة… ولعلّ تجربة مصرف إنترا في العهد الشهابيّ خير مثال على ذلك من حيث قوّة هذا المصرف في لبنان وتمدّد فروعه ونشاطاته عبر العالم وشراكته الكبرى في تألّق شركة الطيّران الوطنيّ اللبنانيّ الميدل إيست، بحيث أصبح لبنان مركز إشعاع اقتصاديّ وازدهار ماليّ عبر العالم!! إلّا أنّ هذا الواقع شهد عدّة أزمات مُختلفة منذ ١٩٦٥…

الرئيس الأمير فؤاد شهاب

 

شهد لبنان في المرحلة الممتدّة بين سنتي ١٩٦٥ و١٩٧٠، سلسلة من الخضّات والأزمات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وحتّى الاستخباريّة: اغتيال الصحافيّ اللبنانيّ العالميّ كامل مروّة في بيروت يوم ١٦ أيار ١٩٦٦، أزمة إفلاس مصرف إنترا المُعلن يوم ١٧ تشرين الأوّل ١٩٦٧ بسبب نقص في السيولة الماليّة رغم فائض ممتلكات وأصول إنترا في لبنان والعالم، تداعيات حرب الأيّام الستّة في حزيران سنة ١٩٦٧ رغم عدم اشتراك لبنان عسكريّاً في هذه الحرب التاريخيّة، ضراوة المعركة الانتخابيّة النيابيّة ربيع سنة ١٩٦٨ بين النهج الشهابيّ والحلف الثلاثيّ، الهجوم الإسرائيليّ على مطار بيروت خلال شهر كانون الأوّل سنة ١٩٦٨،  أزمة السبعة أشهر الحكوميّة البنانيّة بين ٢٥ نيسان و٢٥ تشرين الثاني سنة ١٩٦٩، عمليّة الميراج ١٩٦٩ خريف تلك السنة والتي أدّت إلى كشف شبكات الاستخبارات السوفياتيّة وحتّى العالميّة على يد المكتب الثاني اللبنانيّ ما ضاعف الضغط السياسيّ والأمنيّ الدوليّ على لبنان، تغلغل المقاومة الفلسطينيّة في الجنوب اللبنانيّ في عمليّات خطيرة ضدّ الكيان الإسرائيليّ وصولاً إلى اتّفاقيّة القاهرة يوم ٣ تشرين الثاني ١٩٦٩ بين الدولة اللبنانيّة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة برعاية مصريّة عليا، قرار الرئيس فؤاد شهاب بالعزوف عن الترشّح للانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة سنة ١٩٧٠، ومفصليّة تلك الانتخابات يوم ١٧ آب بفوز الرئيس سليمان فرنجيه رئيساً بفارق صوت واحد عن الرئيس الذي خلفه لاحقاً الياس سركيس… كلّ تلك الأزمات الخطيرة والمُنعطفات الكبيرة، لم تمنع لبنان من الصمود والتألّق بسبب القدرة الاحتياطيّة التي وفّرها عهدا الرئيسين شمعون وشهاب، ومتانة الوضع الماليّ اللبنانيّ، والهامش السياسيّ الواسع في لبنان، وصلابة الجيش والقوى الأمنيّة والمكتب الثاني، إلّا أنّ كثافتها وتداعياتها المستقبليّة جعلت لبنان بعد سنة ١٩٧٠، في مواجهة مزيد من التحدّيات الصعبة!!

الرئيس شهاب وزوجته روز رينيه باتيو

 

بعد مرحلة من الاستقرار السياسيّ والنموّ الديموغرافيّ والانتعاش الاقتصاديّ والنجاح الماليّ والتألّق الاجتماعيّ، أدركها لبنان الكبير منذ فجر استقلاله يوم ٢٢ تشرين الثاني ١٩٤٣، حتّى مطلع سبعينات القرن العشرين، وخصوصاً في المرحلة الزمنيّة ١٩٥٠-١٩٧٠، رغم المرحلة الدقيقة والصعبة الممتدّة بين سنتي ١٩٦٥ و١٩٧٠، بدأ لبنان منذ مطلع السبعينات رحلة صعبة في دنيا التحدّيات والمواجهات والصمود والأزمات: أزمة تعقب الأخرى وسلسلة من الأزمات لا تنتهي!! ولعلّ يوم وفاة الرئيس اللبنانيّ السابق الجنرال فؤاد شهاب ٢٥ نيسان ١٩٧٣، أي قبل سنتين من اندلاع الحوادث الأهليّة المؤسفة في لبنان، شكّل الحدّ الفاصل بين زمن الازدهار الكامل وزمن الصمود الشامل… هل يمكن للبنان أن يستعيد أسباب نجاحه السابق والباهر؟ بالتأكيد نعم، مع تضافر جهود أبنائه، وتحسّن الظروف الإقليميّة والدوليّة، وثقة المجتمع اللبنانيّ بقياداته الجديدة والمُنتظرة، والأهمّ من ذلك، الاستفادة من أسرار وطموحات لبنانيّة في المرحلة الزمنيّة الذهبيّة ١٩٥٠-١٩٧٠، من تاريح لبنان الكبير، الحديث والمُعاصر!!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *