الطائفيَّة مشروعُ فِتْنَةٍ أَم مَشْروعُ حلّ!

Views: 842

الأب كميل مبارك

غالِبًا مَا نسْمعُ في لبنان كلامًا يَدْعو إلى نَبْذِ الطائِفيَّة، ويحذِّرُ من أَخطارِها على المجْتمعِ اللُّبْنانيِّ الَّذي شاءَت ظروفُ تَكْوينِه أَنْ يَجتمعَ فيه مُخْتَلفُ الطَّوائِف، وعلى إمكانيَّةِ التَّعايُشِ بينَ الأَقَلِّيَّاتِ في وطن تعدُّديّ. لذلك، اقْتَضى الوُقوف عند هذه الكلمةِ الشِّعار.

تَعْني الطَّائِفيَّةُ بالمفهوم الشَّائِعِ تحَمُّسَ الفَرْد أَو الجماعةِ لطائِفةٍ يَنْتَسِبون إلَيْها دينيًّا، كما تَعْني أَنْ يطالِبَ أبناءُ هذه الطَّائِفة بحقوقٍ تجعلُهم مواطِنين متساوين مع سائِرِ الجماعات بالحُقوقِ والواجِبات، كما تجعلُهم يشارِكون في الوظائِفِ العامَّة في الدَّوْلة، ويُفيدون ويَسْتفيدون فرْدِيًّا وجَماعِيًّا.

كلُّ هذا حَسَن، وإنْ كانَ من الأفضل الوقوفُ إلى جانبِ المُواطِن بشكلٍ عامٍّ بقَطْعِ النَّظر عن دينِه أَو مَذْهبِه، ولكنَّ هذا الأَمرَ مقبولٌ في المجتمعات التَّعدُّدِيَّة، حَيْثُ كلُّ جماعةٍ تُطالِبُ أَوَّلاً بما هو لصالحِها، ولكنَّ العَيْبَ في أَنْ تصِلَ المسْأَلةُ إلى ذَمِّ الطَّوائِفِ الأُخْرى وتَشْويهِ سُمْعَتِها الوطنيَّة والتنكُّرِ للخدَماتِ الَّتي قدَّمَتْها للوطن ولجميعِ أَبْنائِه، والسَّعْيِ إلى إبعادِ أَبْنائِها عن المراكزِ الحَسَّاسةِ في مُؤَسَّساتِ الدَّولة والمُؤَسَّساتِ غير الحُكوميَّة.

إذًا للطَّائِفِيَّةِ وَجْهان: حَسَنٌ وسيِّئ، واحدٌ يطالبُ بالخَيْرِ لطائِفةٍ مُعيَّنة، وآخَرُ يُلْحِقُ الأَذى والشَّرَّ بالطَّوائِفِ الأُخْرى. فالمطلوبُ أَوَّلاً لَيْسَ إلْغاءَ الطَّائِفيَّةِ بشكلٍ عام، لأَنَّ هذا مُسْتحيلٌ في المُجتمَعِ التَّعَدُّديّ، بل إلْغاءُ الوجْهِ السَّيِّئِ لهذه الطَّائِفيَّة والإبقاءُ على الحَسَن.

 أَمَّا المطالِبون بإلْغاءِ الطَّائِفِيَّة السِّياسيَّة فهُم أَدْرى بأَنَّ هذا الأَمْرَ يَسْتدعي أُمورًا كثيرة، فهو لا يَنْحصِرُ فقط في الوَظائِفِ مَهْما عَلَتْ أَو دَنَت، لأَنَّه يطولُ قِطاعاتِ الدَّوْلةِ وهيكليَّةَ المجتمع، وهذا أمْرٌ مُسْتحيلٌ في المجتمعِ التِّيوقراطيِّ الَّذي نعيشُ فيه. وقد يَصِلُ الأَمْرُ إلى اعتِبارِ هذا المَطْلَبِ طائِفِيًّا أَو مَذْهَبِيًّا بامْتِياز.

لقد جَعَلَ الوَعْيُ التَّامُّ لواقِعِ لبنانَ التَّعدُّدِّيِ كثيرين من الَّذين كانوا يطالِبونَ بإلْغاءِ الطَّائِفِيَّةِ السِّياسيَّة، يعودون إلَيْها حَلّاً مُوَفَّقًا لمشكلةِ تعايُشِ الأَقليَّات. حتَّى إذا ما نجحَ هذا الحَلُّ، تحوَّلَ الوطنُ اللُّبنانيُّ إلى رسالةِ حِوارٍ بين الثَّقافاتِ وقُدْوَةٍ في التَّعايُش والتَّفاهُم للشَّرْق والغَرْب. أَمَّا إذا اختارَ اللُّبنانيُّونَ أَنْ يَجْعلوا دُسْتورَهم كالدُّسْتورِ الفَرَنْسيِّ أَو الإسبانيِّ حيثُ لا اعتراف إلاَّ بالمواطنيَّة بشكلٍ عام، وحيْثُ جميع المواطنين، أَيًّا يَكُن دينُهم أَو لَوْنُهم أَو عرقُهم، يخضعون لقانونِ الدَّوْلةِ فقط، فلا شَرْع خاصًّا، ولا أَحْوالَ شخصيَّة باستلام الطَّوائِف، ولا قانونَ ينظِّم الإرْثَ إلّاَ قانونُ الدَوْلة ومَا إلى هنالِك، فحينَها تسقطُ الطَّائِفيَّةُ السياسيَّةُ حكْمًا ولا لُزوم تالِيًا لاستعمالِها ورقةً سياسيَّة.

ولكنَّ المُجتمعَ اللُّبنانيَّ لا يسْمحُ، بل يستحيلُ علَيْه إلّاَ أَنْ يكونَ واقِعًا تعدُّدِّيًّا، وهو بهذا، نموذجٌ عالميٌّ للتَّعايُش، تَسْعى مُعْظَمُ الدُّوَلِ الَّتي تَحَوَّلتْ إلى تَعَدُّدِّيَّةٍ أَو نشأَت علَيْها، إلى أَنْ تصلَ إلى مِثْلِ نظامِه، فهل يفرِّطُ اللُّبنانيُّون بما يَسْعَى الآخرون للوُصولِ إلَيْه، من أَجْلِ أَهْدافٍ مَجْهولَةِ المسْتَقبَل؟

(حزيران – يونيو 2007)

***

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” (2018)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *