أُوطوبْيا الأَرض والبُعْدُ الرُّوحي

Views: 14

الأب كميل مبارك

لَئِن كانت العولمة، بالنسبة للبعض، عقيدة سياسيَّة إجتماعيَّة تسعى إلى تحقيق الوحدة السياسيَّة بين أُمم الأَرض ودولها لتشكِّل جماعة سياسيَّة واحدة، فهي بالنسبة للبعض الآخر محاولات تهدف إلى وضع نظم جديدة موحَّدة يخضع لها جميع سكَّان الأَرض وتتلخَّص بتخلِّي السلطات المحليَّة في الدول عن بعض من صلاحيَّاتها وتجييرها لسلطة عالميَّة قادرة على حلِّ جميع المشاكل التي تهدِّد المجتمع البشري بأَسره. وهناك مَن يرى في العولمة دربًا لهيمنة ثقافة من الثقافات على سواها أَو إيجاد قواسم مشتركة مقبولة من الجميع تكون أَساسًا لثقافة موحِّدة تصبغ الجنس البشري فردًا وجماعات أَينما عاشوا وإلى أَيِّ أُمَّة انتسبوا.

وهناك من يقول إنَّ العولمة تسعى تحت ستار أَقنعة عديدة إلى إخضاع كلِّ المجتمعات إلى سلطة سياسيَّة واحدة تكون أَشبه بحكومة عالميَّة، ترعى شؤون الناس وتنظِّم سبل عيشهم حسبما تراه هي موافقًا، دون أَخذ الفوارق الثقافيَّة بعين الإعتبار، وتعتبر تدخُّلها بشؤون الدول والمجتمعات حقًّا حصريًّا لها، بقطع النظر عن الوسائل التي تستخدمها لتحقيق أَهدافها، وحجَّتها أَنَّ المشاكل اليوم بدأَت تأخذ منحىً عالميًّا على جميع الصعد السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والبيئيَّة والماليَّة وسواها، لذلك فهي تستدعي سلطة عالميَّة تضع لها الحلول المناسبة باللين أَو بالشدَّة.

وهنا يُطرح السؤَال : أَوَليس هذا الحلم نوعًا من الأُوطوبيا؟ أَوَليس تستُّرًا بأَقنعة السياسة والاقتصاد لرفض كلِّ الأُصول والنظم والقوانين التي ليست من صنع الإنسان ووضع العقل البشري مستقلاًّ عن أَيِّ قوَّة أَو سلطة أُخرى؟ 

لماذا هذا السؤَال؟ لأَنَّه لو قُيِّض للمجتمع البشري أَن يكون دولة واحدة أَو جمهوريَّة عالميَّة تحكمها حكومة واحدة، لما عاد بالإمكان التنبُّه إلى وجودٍ أَبعد من المؤَقَّت، لأَنَّ هذا المؤَقَّت أَضحى ذا بعدٍ عالميٍّ مادِّيٍّ يقف حائلاً بين الإنسان وبين البعد الروحي أَو البعد الفائق الطبيعي. إنَّها بقايا الأُوطوبيَّات التي سعت إلى إعادة خلق عالم الأَشياء وعالم الانسان إنطلاقًا من مقاييس لا علاقة لله بها. إنَّه حلم البشريَّة الخاطئَة التي حاولت وتحاول أَن توحِّد بين أَجناس الناس على طريقة بابل القديمة التي ابتغت في سبيل هذا الأَمر، قَتْل الله أَوَّلًا. حين يصبح كلُّ شيء على مقياس الإنسان، فنفهم كلَّ شيء ولا نعود بحاجة إلى تدخُّل إلهي، وحين تتوحَّد كلُّ المقاييس ويَتَمَكْنَن العالم كما نريده نحن، نصبح قادرين على إعادة تنظيمه بحسب مشيئتنا. وإذا كان الله قد نظَّم العالم حتى الآن، فمن الآن وصاعدًا يصبح الإنسان وحده المنظِّم الأَوَّل والأَخير لهذا العالم.

 أَمَّا الجديد في هذه الأُوطوبيا فهو التقدُّم التقني المتسارع الذي دفع مجدَّدًا بهذا الحلم إلى واجهة الاهتمامات. ويعتقد دعاة هذه الأُوطوبيا أَنَّ جميع الناس غير مؤَهَّلين لهذا الواقع الجديد، فعلى النخبة أَن تفكِّر عن الجميع وتسعى من خلال حكومة عالميَّة، إلى تأمين الإزدهار والأَمن والحرِّيَّة ولو بالظاهر، دون الرجوع إلى أَيَّة مرجعيَّة خارج إطار العقل البشري. أَمَّا عمل هذه النخبة فاتَّخذ سبلاً ثلاثة متمايزة متلازمة: الأَوَّل يأتي من فوق ويلزم جميع الدول والأُمم بنهج إقتصادي واحد يتجاوز صلاحيَّات السلطات المحليَّة. والثاني يدعم الأَوَّل بقوَّة السلاح وحقِّ التدخُّل دون قيود. والثالث يأتي من تحت ويسعى إلى توحيد ثقافات المجتمعات ليصبح الأَفراد متشابهين فكرًا وسلوكًا.

 

(https://firework.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *