الإنسان فن الثورة على المعاني

Views: 602

حسن عجمي

     يخلقُ الإنسانُ المعاني ومن ثمَّ يثور عليها لكي يخلق معان ٍ جديدة باستمرار. فتاريخ الإنسان تاريخ إنتاج المعاني والثورة المستمرة على ما أنتج من معان ٍ ما يضمن تطوّر الإنسان بِتطوّر معانيه. هكذا الإنسان فن الثورة على المعاني ما يضمن تحرّره من المعاني الماضوية فيضمن إنسانيته. فلا إنسانٌ بلا ثورة ولا ثورة بلا خلق معان ٍ جديدة. لا ثورةٌ بلا خلق ولا خلقٌ بلا ثورة. 

     إن كان الإنسان فن الثورة على المعاني وعلماً بأنه من غير الممكن أن يثور على المعاني من دون تفعيل العقل وبناء نماذج فكرية جديدة على ضوئها يثور على المعاني فحينئذٍ تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني يتضمن أنَّ الإنسان كائن عاقل مالك للعقل ويتصرّف على أساس ما يمليه عليه عقله. من هنا تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني ينجح في التعبير عن أنَّ الإنسان كائن عاقل. فمن المطلوب من أي تحليل أن ينجح في التعبير عن صفات الحقيقة أو الظاهرة التي يُحلّلها. وتحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني ينجح في التعبير عن صفات الإنسان كصفة أنه العاقل ما يدلّ على صدق هذا التحليل. 

     كما لا يثور الفرد بلا دعوة الآخرين إلى أن يثوروا على نمط ثورته. ولا دعوة إلى الثورة بلا خطاب يدعو إليها ما يستلزم امتلاك الإنسان للغة تسمح له في أن يدعو إلى الثورة على المعاني. من هنا تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني يتضمن أنَّ الإنسان مالك للغة. وبذلك ينجح هذا التحليل في التعبير عن صفة أساسية للإنسان ألا وهي أنه مالك اللغة تماماً كما هو مالك للعقل ما يشير إلى مصداقية هذا التحليل. ولا يثور أي فرد بلا أن يدعو الآخرين إلى الثورة ما يستلزم التفاعل الاجتماعي مع الآخرين. وبذلك تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني يتضمن أنَّ الإنسان كائن اجتماعي ما يجعل هذا التحليل ناجحاً أيضاً في التعبير عن صفة جوهرية للإنسان ألا وهي أنه كائن اجتماعي.

فن الثورة على المعاني

     إن كان الإنسان فن الثورة على المعاني وعلماً بأنه لا تتحقق أية ثورة بلا أن يكون الإنسان حُرّاً في أن يثور فحينئذٍ لا يتحقق الإنسان (على أنه فن الثورة على المعاني) بلا أن يكون حُرّاً. على هذا الأساس تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني يتضمن أنَّ الإنسان في جوهره كائن حُرّ وبلا حريته يخسر إنسانيته. هكذا ينجح هذا التحليل للإنسان في التعبير عن أنَّ الإنسان حُرّ بطبيعته وماهيته تماماً كما ينجح في التعبير عن أنَّ الإنسان هو العاقل والاجتماعي ومالك اللغة وتعابيرها. وهذا النجاح في التعبير عن الصفات الأساسية للإنسان دلالة على صدق تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني.

     لا يتضمن هذا التحليل الفلسفي للإنسان صفة الحرية فقط بل يضمنها أيضاً. فبما أنَّ الإنسان فن الثورة على المعاني , إذن لا يتحقق الإنسان ولا تتحقق إنسانيته سوى بالثورة على المعاني (التي سادت في الماضي وتَسُود في الحاضر) ما يضمن تحرّر الإنسان من المعاني الماضوية بِجعل الإنسان خالقاً لمعان ٍ جديدة مستقبلية. فإن وُجِدَ الإنسان وُجِدَت ثورته على المعاني فوُجِدَت حريته لأنَّ الإنسان ليس سوى ثورات على المعاني ما يضمن حريته بالضرورة. هكذا تحليل الإنسان على أنه فن الثورة على المعاني يضمن حرية الإنسان فبِلا ثورات على المعاني السائدة والماضوية لا تتحقق الحرية تماماً كما لا يتحقق الإنسان. وبما أنَّ الإنسان فنون الثورات على المعاني , والثورات على المعاني تؤدي لا محالة إلى التطوّر من خلال إنتاج معان ٍ جديدة , إذن هذا التحليل للإنسان يضمن التطوّر المستمر للإنسان وحضارته. من هنا ينجح هذا التحليل في ضمان التطوّر تماماً كما ينجح في ضمان الحرية. وفي هذا فضائل معرفية وسلوكية متعدّدة ما يدلّ على صدق ومقبولية تحليل الإنسان على أنه فنون الثورات على المعاني. 

     أما الحرية فهي فن تغيير المعاني وتطويرها ما يجعلها تكتسب الفضائل السابقة نفسها. فبما أنَّ الحرية فنون تغيير المعاني وتطويرها , إذن الحرية الحقة تضمن التطوّر بتطوّر المعاني كما تضمن التحرّر من المعاني الماضوية والمُحدَّدة مُسبَقاً بفضل تغيير المعاني وانتاج معان ٍ جديدة. وبذلك يكتسب هذا التحليل للحرية على أنها فن تغيير وتطوير المعاني فضيلة التحرّر من المعاني الماضوية وفضيلة ضمان التطوّر ما يشير بقوة إلى نجاح هذا التحليل فصدقه. إن كانت الحرية مجرّد فعل ما نريد على ضوء معتقداتنا ورغباتنا فحينئذٍ حريتنا هذه لا تضمن التحرّر من الماضي ولا تضمن التطوّر لأنَّ رغباتنا ومعتقداتنا هي عادةً من صناعة الماضي. لذلك تحليل الحرية على أنها فنون تطوير المعاني وتغييرها هو التحليل الأفضل لكونه يضمن التطوّر والتحرّر الحق معاً. إذا كان الإنسان فنون الثورات على المعاني وعلماً بأنه لا ثورات بلا تغيير المعاني وتطويرها أي لا ثورات بلا حرية, إذن لا إنسان بلا حرية. هكذا أيضاً ينجح هذا المذهب الفلسفي في ربط الإنسان بالحرية فتصبح الحرية جزءاً جوهرياً من ماهية الوجود الإنساني. 

تعدّد الأمثلة

     تتعدّد الأمثلة على صدق أنَّ الإنسان فن الثورات على المعاني. من تلك الأمثلة أنَّ الإنسان قد ثار على معنى مفهوم العدالة على أنها مجرّد سيادة الانسجام في المجتمع واتصاف المجتمع بالاستقرار فأنشأ معنى آخر للعدالة على أنها احترام حرية كل فرد في التفكير والتصرّف كيفما يشاء. ومن ثمَّ ثار أيضاً على هذا المعنى للعدالة وبنى العدالة على أنها الحرية والمساواة معاً. هكذا تاريخ الإنسان تاريخ الثورات على المعاني كالثورات على المعاني الماضوية للعدالة والثورات على معاني العبودية والاستعمار والفقر والثورات على معاني الجهل (كالثورة على الاعتقاد بلا دليل علمي). وبفضل هذه الثورات على المعاني تطوّر الإنسان وتطوّرت حضارته وازدادت حريته فاكتسب إنسانية أعلى مما كان يمتلك.  

     مثلٌ آخر هو أنَّ الإنسان يثور على المعاني العلمية والفكرية باستمرار كثورته على معنى أنَّ القوانين الطبيعية حتمية كما جاءت في نظرية نيوتن العلمية وبناء معنى جديد للقوانين الطبيعية على أنها احتمالية وليست حتمية كما جاء ذلك في نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية. مثلٌ آخر ثورة الإنسان على معنى الزمن على أنه مطلق وليس نسبياً كما وَرَدَ ذلك في نظرية نيوتن العلمية وصياغة معنى جديد للزمن على أنه نسبي وليس مطلقاً كما في نظرية النسبية لأينشتاين. من هنا تاريخ الإنسان ليس سوى تاريخ الثورات على المعنى ما يؤكِّد على أنَّ الإنسان فن الثورة على المعاني. لا إنسانٌ بلا معان ٍ يكتشفها أو يخترعها أو يثور عليها. لا ثورةٌ بلا اكتشافٍ واختراع ولا اكتشافٌ واختراع بلا ثورة. إنسانٌ بلا ثورة شبهُ إنسان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *