منتدى شعراء باريس وسؤال مَوت الشِّعر

Views: 1205

تهاني سنديان

بات للشعر العربيّ عنوانٌ في فرنسا، فثمّة منتدىً ثقافيّ وأدبيّ عربيّ في باريس خرج من بداياته المغمورة المتواضعة عند تأسيسه في العام 2013، إلى تصدُّر المشهد الثقافيّ العربيّ في فرنسا بفعل إيمانه الجريء وعزيمته الثابتة: فهو ما زال يؤمن بـ”الشعر نبض الحياة”. هذا العنوان هو “منتدى شعراء المهجر في باريس”، الذي يرأسه كاظم عاصي، والذي جعل رسالته العناية بالأوضاع التي يعيشها الشعر العربيّ في غير البلدان العربيّة. فاللّقاءات التي ينظّمها المنتدى هي إمّا أمسيات شعريّة يُحييها شعراء لامعون أمثال أدونيس، أو صاعدون واعِدون، أمثال الشاعر الجزائري مصطفى هنّاني، وإمّا ندوات فكريّة تُناقش شؤون الشعر العربيّ وشجونه في بلاد الاغتراب.

مِن الهموم التي يتنكّبها المُنتدى مسألة “موت الشعر” أو “نهاية الشعر”، هذه المقولة التي راجت في الغرب وانتقلت إلى بلداننا العربيّة وتناولها الأدباء ونقّاد الأدب عندنا. وقد خصَّص المُنتدى ندوةً جمعت عدداً من أهل الاختصاص والمَعنيّين ناقشت هذه الموضوعة حول مُحاضرة ألقاها المفكّر والشاعر الموريتاني بدّي إبنو المُرابطي تحت عنوان “هل مازال هناك معنى لكِتابة الشعر؟” أجابت باستفاضة عن السؤال المطروح. والمحاضِر شاعر وكاتب وعضو المرصد المتوسّطي للعلاقات العربيّة الأوروبيّة، ومدير مركز البحوث والدراسات المعرفيّة في بروكسيل. ولهُ مؤلّفات في الفلسفة والسياسة والأدب، بالعربيّة والفرنسيّة، نذكر منها في المجال الأدبيّ العربيّ: “لهذا رحلتُ عن هذه الأرض”، “أودية العطش”، “وَهج المعنى والمنفى”، “قصيدة الزمن والدمّ”… ومن مؤلّفاته “فلسفة الشعر”، “هل تعيش العربيّة آخر مراحلها كلغة حيّة؟”، “التكفير والتفكير”، “تأمّلات في العقل السياسي”… وقد ورَدَ في مُحاضرته أنّ السؤال عن الشعر هو السؤال عن المدوّنة المدرسيّة التي ستكوِّن عقل الأجيال، وهي تكوِّنهم على العقل وعلى اعتبار العقل. وبما أنّ الشعر في مواجهةٍ مع العقل، فإنّ السؤال يقتضي أن نتوقّف عنده للحظات، لأنّه مركزيّ في إشكاليّة التربية والتعليم وإعادة الهرميّة التراتبيّة في ما يتعلّق بالأولويّات التي تتركّز بشكلٍ منهجي وتلقائي حول المدوّنات، بل إنّ الشعر المُنتشر في بعض المناطق وغير المُنتشر في بعض المناطق الأخرى، مُرتبط تناسبيّاً طرديّاً بمستوى المدوّنة الشعريّة في المدرسة أو حجمها (…). غير أنّ تجدُّد الأجيال الشعريّة لم يحصل عن طريق المدوّنة المدرسيّة وهذا له تأثير واسع؛ لأنّ نهاية الشعر هذه، أو نهاية قدرة الشاعر على الإبداع، هي سؤال الشعر منذ بدايته؛ فمنذ الجاهليّة كان السؤال مطروحاً، كما في معلّقة عنترة، مثلاً، “هل غادر الشعراء من متردّم” (أي أنّ الشعراء لم يتركوا موضوعاً إلّا وطرقوه) التي استُخدِمت كثيراً في ما بعد، فعبد الله بن علي مثلاً، في القرن التاسع عشر، استعادها بطريقة أخرى ليقول في قصيدة له شهيرة، يستعيد بها هذه الإشكاليّة: ” مَن يتبع الشعراء عاد حديثهم/ بعد المضيّ وضلّ مَن لم يتبع”، أي هذا المأزق الذي به يُصبح على الشاعر أن يكون داخلاً في النماذج السابقة لشعراء سبقوه، ولكن في الوقت نفسه لا يُمكن له أن يُبدِع إلّا إذا كان خارجهم (…). نعم، الشعر الذي كان بالمعنى المدرسي، يُدرَّس للطلَبة والتلاميذ، انتهى. ولكن بالمعنى الحداثي، الشعر الذي يعمِّق النظر إلى العالَم، الشعر الذي ليس هو شعر ما قبل المفهوم الذي أدانه أفلاطون، وإنّما الشعر الذي يُعطي وسائل لإدراكٍ يتجاوز الإدراك المفهومي، الإدراك العقلاني، أي أنّه الشعر الذي هو امتداد للعقل وليس الذي يقصر على العقل، هذا الشعر ما زالت أمامه آفاق كبيرة، على الرّغم من كلّ الأطروحات الموجودة حاليّاً، والتي تتحدّث عن أنّ الآفاق الجديدة لا تتحمّل الشعر. وللشاعر بول سيلان عبارة مشهورة: “الشعر يقدّم نفسه بيد مبسوطة ولكنّه يحتاج إلى قبضة كي تُمسِك به” أي أنّ التواصل مع الشعر لا يُمكن أن يكون شيئاً مجّانيّاً أو شيئاً سهلاً. وفي السياق نفسه، يقول الكاتب الجنوب أفريقي وولي سوينكا: ” إنّ هذه الإشكاليّة هي الأساس بالنسبة إلى الشعر في عصر تويتر وفيسبوك، لأنّ الآن كلّ ما لا يُمكن أن يُترجَم بسرعة، وبشكلٍ خاصّ إلى اللّغات الأكثر انتشاراً في العالَم عن طريق التواصل، وكلّ ما لا يُمكن أن يُجمَل في عبارات قليلة، وكلّ ما لا يُمكن أن يتحوّل إلى استهلاكٍ يومي وبضاعة تُباع في السوق، أي كلّ ما لا يكون تدويره الاقتصادي سريعاً، ليس قابلاً للبقاء”.

ألان باديو والشعر

إثْرَ مُداخلات عددٍ من المُشاركين في مناقشةِ مقولة “نهاية الشعر”، تبيَّن أنّ الفلسفة، بحسب هيغل (وعبارته المشهورة “الفلسفة لا تبدأ إلّا مع طيور المساء”) تحتاج إلى العلوم وبشكلٍ خاصّ إلى الرياضيّات، وتحتاج إلى الفنون وبشكلٍ خاصّ إلى الشعر، وتحتاج إلى السياسة وبشكلٍ خاصّ إلى السياسة الثوريّة، وتحتاج إلى العلاقات الإنسانيّة وبشكلٍ خاصّ إلى العلاقات العاطفيّة.. وحين يتأسَّس ذلك، تأتي بعده العقلانيّة الفلسفيّة لتفكّر بذلك كلّه. ولكنّ هنالك ما يُمكن أن يسمح لنا بمُراجعة أخيرة لهذا، لأنّ خطاب العقلانيّة نفسه بدأ فلسفيّاً وتقريباً كلّ الفلاسفة الذين سمّاهم التقليد الأوروبي بـ”ما قبل سقراطيّين” ولكن تاريخيّاً يسمّونهم، في التقليد البيزنطي، الفلاسفة الآسيويّين (نسبةً إلى آسيا الصغرى، أي تركيا الحاليّة) فهؤلاء كلّهم معظم كِتاباتهم هي في الحقيقة كِتابات شعريّة. وإذا نظرنا إلى تلك الكِتابات، نجد أنّها نصوص كُتِبت أساساً للشعر وأنّ الصيغة الشعريّة هي الصيغة الأساسيّة. كما نجد أنّ أفلاطون نفسه كتبَ شعراً قبل أن يصبح “مُعادياً” للشعر.

حول مُعاداة أفلاطون للشعر، يرى الفيلسوف الفرنسي ألان باديو Alain Badiou أنّ ما أدانه أفلاطون ليس الشعر بشكلٍ عامّ، وإنّما شعر المُحاكاة بشكلٍ خاصّ، وبالتالي فإنّ الشعر الذي هو إبداعٌ، من حيث تعريفه، هو بالضرورة الشعر الذي لم يدينه أفلاطون. ويرى باديو أنّ الكثيرين اعتقدوا أنّ أفلاطون أدان الشعر، وهذا خطأ، إذ يربط باديو بدايةَ الشعر بأفلاطون، ويبني كلّ نسقه الفلسفي على أساس أنّ الفلسفة ظهرت لأنّ هنالك أمرَين ظهرا قبلها: الرياضيّات من جهة والشعر من جهة أخرى، وأنّها تتأرجح دائماً بينهما. وظيفة الشعر هي الجاذبيّة ووظيفة الرياضيّات هي البرهان والاستدلال؛ وبالتالي فإنّ الرياضيّات سمحت للفلسفة بالجانب الاستدلالي، ولكنّ الشعر هو الذي سمح للفلسفة أن تقول ما لا يُمكن للاستدلال أن يسمح لها به.

لا يني “منتدى شعراء المَهجر” يُناضل من أجل إنعاش الشعر العربي وإثبات وجوده عبر أنشطته التي تجمع متذوّقي الشعر ومُحبّيه وعشّاقه من شعراء صاعدين أو مُحترفين وجمهور الشعر في بوتقة من التفاعُل تُحدث انتشاراً بين الجاليات العربيّة المُقيمة في باريس، يأتون من عموم أنحائها للإسهام في إحيائها، كما في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حيث أحيا المنتدى الذكرى السادسة لتأسيسه، بأمسية شعريّة وفنيّة كانت بمثابة مهرجانٍ شعري/ غنائي قدّمتْ فقراته أستاذة اللّغة العربيّة عبير يحفوفي، شارك فيها رهطٌ من الفنّانين، من موسيقيّين ومغنّين من المغرب وتونس والأردن، وشعراء من أقطار عربيّة مختلفة، أثبتوا أنّ الشعرَ لم يمُتْ ولم ينتهِ، كالشاعر التونسي حميد طهير والشاعر المغربي يحيى صمايري والشاعرتَين الجزائريّة رانيا شعراوي والمغربية جميلة شقيري، والشاعر الجزائري مصطفى هناني… وهذه، على سبيل المثال، نماذج من شعرهم، كالمقطع التالي من قصيدة نثريّة للشاعر التونسي يحيى صمّاوي:

“أعيدي صباحاً/ أعيدي مساءً/ أعيدي سنيناً كنفسِ الخبر/ كما كلّ يومٍ سأصحو/ لأجري وراء القطار العَجول/ نتابع ذات السياق/ سباق طويل بدون وصول/ أغوص وأطفو بمَوج ازدحام/ وأرسو على مقعدٍ لا نبالي… كأهل الحضَر/ عيونٌ منكَّسَةٌ للهواتف/ ترنو خيالاً تجمَّدَ في شاشة كالصور/ عيونٌ تُشتِّتُ عن مقلتَيها ضبابَ النعاس/ وأخرى تزيِّن مرآتَها/ فترسم فيها رموشاً وتوقِد لونَ الشفاه/ لتمحو بقيّة ليلٍ وتكتم بعض الخدَر/ ويهوي القطار إلى نفقٍ في عروق المدينة/ يُعبّئُ صمتاً ويُفرِغ صمتاً بجوف الحُفَر/ فيمضي وصولٌ ويأتي وصولٌ يهُدُّ السكينةَ / وتأتي الثواني سِراعاً سراعاً/ وتمضي سِراعاً كطَرْقِ الخطى في مَضيق الممرّ/ صعوداً نزولاً تَسوق الأماني/ لنفسِ المكانِ ونفسِ الزمانِ/ لكي لا تروّعَ نومَ الرتابة فوق الأثر/ فلا أتذكّر وجهَ الضحى كيف جاء ولا كيف راح/ ويكنس كفُّ المَغيب الدروبَ/ فينسى المساءُ الصباحَ/ وينسى الرصيفُ خُطَى مَن عَبَر”.

ومن قصيدة للشاعر المغربي حميد طهير نقتطف:

“الوقت يعبر فوق صدري حاملاً صُحفاً من الأحلام والأيّامِ

كالريح هزّ ورودَها فتطايرت بين النجوم ولوّحتْ بسلامِ

مُرّي عليها واقرئي يا ريح في شجنٍ ولو سطراً من الأحلامِ

ما عدتُ أرمق في السماء بريقها أو بدرها الفضيّ عند تمامِ

ضوء المدينة كاد يُطفئُ سحرَها بضبابة تغشى المدى المُترامي

في الصبح أغفو مثلما ضوضاؤها وأدور في دوّامة الأيامِ

واللّيل يفتح كالعيون جراحها كيف المنام وهنّ غير نيام؟

يا شمعةً تضوي وتحرق داخلي وتميل فيّ كمخزن الأنغام

هل أنتِ من قبَسِ الشباب المنقضي وشِفاف روحٍ أُشعِلت بظلام؟

لا زال ليلكِ راشفاً أرَقي وهمّي فاسكني شعري كزيتٍ حامي

في ليلةٍ جمَدت كواكبُها وطافت ريحُها بالدّور والآكام

وكأنّها ريح الخريف بداخلي تحكي مع الأوراق دون كلام

دخّنتُ كلَّ سجائري ورحلتُ في سفُنِ الدخان والأوهام”

ومن شعر المغربية جميلة شقيري قصيدة بعنوان: “امرأة من سلالة الريح”:

“زهرة بريّة/ مثواها بداخلي/ شغَـبُها ماءُ زهرٍ، رذاذُ غيمٍ، وزخات مطر/ هي من سلالة الريح/ ضدّي في كلّ شيء/ ضدّ هدوئي ونعومتي، ضدّ الورد، ضدّ الخجل/ أُقبِل فتُدْبر/ تَرفع وتَنصبُ وتَكسر من قواعدي ما تشاء/ تمشي على خدّي/ حين تنتهك الخطى/ صعلوكةٌ هي في براري القصيدة / كمُفرداتٍ خارج السيطرة/

زهرة بريّة/ لها همسٌ يُهدهد القمر/ همسٌ كريح الأرض بعد المطر/ كجمرٍ بشهوات القُبَل/ هوائيّةٌ من سلالة الريح/ أدرّب نايها / على تراتيل روحي/ علّها تستكين بين القوافي/ زهرة بريّة/ لها شَغَـب التمرّد/ ولي ورعُ الذهول”.

 

***

 (*) كاتبة من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. انا جميلة شقيري شاعرة مغربية مقيمة بهولندا وصاحبة قصيدة امرأة من سلالة الريح.
    لدي ملاحظة بخصوص هذا المقال أو التغطية لامسية المنتدي الذي أقسم بباريس..
    قرأت في المقال أنني جزائرية وهذا خطأ لأنني مغربية ولست جزائرية ولمصداقيتكم.
    الوسائل عن إمكانية النشر على صفحاتهم واي ايميل ارسل عليه قصائدي .وأشكركم مسبقا على التفهم والرد.
    تحياتي
    الايميل الخاص هو
    [email protected]