ميخائيل نعيمة … ناسِكُ الشّخروب
د. جورج شبلي
في بيتٍ كانَت تطمحُ ” والدتي الأُمِيّةُ أن ترى كتباً ودفاترَ وأقلاماً ومحابر “، رأى ميخائيل نعيمة النّور ، وفي جُبلتِه وعدٌ بإضاءةِ الدّيجور . وقبل أن تغلبَ على صومعةِ بسكنتا كنيةُ “الشخروب ” ، طلعَ من دروبِها العاليةِ ولدٌ مُثقَلٌ بالأمانات ، مشى في مغامرةِ الحقّ، فكان له قسطٌ موصولٌ في تاريخِ النّبوغ .
عندما زرعَ ميخائيل نعيمة قلبَه على الورق نَبَتَ قلبُه في قلوبِ النّاس . فهذا الرّجلُ أعطى الأدبَ بُعداً متجاوِزاً ، هو أن يكون مطوِّراً للحياة ، لا أن يكون صدىً لها . من هنا كان أدبُه رسولاً في أمّةٍ ، يحملُ همومَها بنقاءِ نفس ، ويبشِّرُ بالخيرِ الكامنِ في الإنسان ، قبل أن يشوّهَه الإنسانُ بنفسه . وأصبحَ نعيمة باباً من أبوابِ فراديسِ الفكرِ والكَلِم ، هذه التي تُفاخِرُ بانتمائِه إليها ، هو الذي أدركَها على غيرِ جُمود ، فبعثرَها مع أغراضِه ، وجعلَها كُبرى الفضائلِ في عمارةِ الإنسان الجائعِ الى الحقيقة ، فأَشْبَعَتْ فيه النَّهَم .
الإنسانُ هو محتوى جُعبةِ نعيمة ، من هنا حملَ ميخائيل في كيانِه كلَّ النّاس ، هؤلاءِ الذين قالَ عنهم في ” صوتِ العالم ” إنّهم بعضٌ منه وهو بعضٌ منهم . أوليسوا كالأزهارِ الشائكةِ إذا جِئتَها مُغتصِباً أَدْمَتْكَ ، وإذا قاربْتَها كالنّحلةِ حامِلاً إليها السّلام ، مَنَحَتْكَ قلبَها وأهدَت إليكَ
كلَّ ما فيه من حلاوة ؟ لم يَقْسُ نعيمة على الإنسان ، لكنّه كان قلقاً على العتمةِ التي وقَّعَت مع بعضِهم عقدَ صفاء ، ونسجَت في أسماعِهم بِرِقَّةٍ أحاديثَ عِذاباً ، حتى غدا والدّموعَ رفيقَين الى ما لا نهاية .
لم تَنضَبْ عند نعيمة غُدرانُ وَحْيِه ، فكان أعظمَ من كلِّ أعمالِه ، كالبحرِ الذي يقذفُ اللآلئَ وهو أكبرُ من كلِّ ما فيه . كانَت عيناه أَشْوَقَ الى أَبْعَد، الى لذّةِ الإيابِ لأصالةٍ لم تَمسَسْها حضارةُ التّشويه ، فهناك التَّماهي مع الآخر قيمةٌ وإحساسٌ بالمسؤوليّة ، لا بل تمرّسٌ بالفضيلة . هذا المُرتجى لم يُنهِكْ نعيمة ، صاحبَ الفكرِ المُجاهِد ، والمُدرِكَ بأنّ الحياةَ أبعدُ من أن تنتهيَ حيثُ يقولُ النّاس ، فأطلَّ أدبُه راجِحَ التُّحَف ، طويلَ العمر ، يعبرُ فوقه الزّمنُ بخفّةٍ فلا يقعُ عليه لِيَبلى.
لربّما شكّلَ التأمّلُ وِحدةَ الفكرِ لدى نعيمة ، تأمّلٌ في الحسِّ وآخرُ في اللاّماديّ الصّافي ، حيثُ سِرُّ الرّوحِ عيد ، وغايةُ الوجودِ قداسة ، وصراعُ القلبِ المُسَلِّمِ مع العقلِ المتسائلِ استطاعةٌ لكشفِ معنى الوجود . هذا الُرقيُّ الصّوفيُّ بلغَ بنعيمة محطّةَ التبصّرِ في معرفةِ الذّاتِ ومعرفةِ الله ، إذِ انفتحَت عينُه الرّوحيّةُ على مدىً أَعْتَقَهُ من الزّمانِ والمطارح ، فبدأَ رحلةً في حقيقةِ الكون ، حيثُ النّورُ وحدَه هو الصِّلةُ بين الوجودِ والمعرفة .
أدبُ نعيمة بِناءٌ مَعرِفيٌّ مُنْفَتِحٌ على الإبداع ، مُتفاعِلٌ مع الحياة ، امتدَّ ظِلُّ الإنسانِ فيه على قِطَعِه ، وتواصلَت معه رسالةُ المحبّةِ لتوقظَ الخيرَ في النفوس . وهذا امتيازٌ جعلَ نعيمة يتفلَّتُ من رابطِ المسافاتِ ليحلَّ في كلِّ الأَبعاد ، فهل تحدُّ الأحوالُ العبقريّاتِ الأصيلة؟
(Xanax)