هل الله سوبر حداثوي؟

Views: 401

حسن عجمي

هل الله حداثوي أم ما بعد حداثوي أم سوبر حداثوي؟ يختلف العلماء والفلاسفة حيال أية حداثة هي الأصدق والأفضل، فبينما يتخذ أينشتاين موقفاً حداثوياً ويُصوِّر الله على أنه حداثوي يتخذ هوكنغ موقفاً ما بعد حداثوي فيُصوِّر الله على أنه ما بعد حداثوي. لكن السوبر حداثة تتخطى المذهبيْن السابقيْن معاً وتُصوِّر الله على أنه سوبر حداثوي.

يقول أينشتاين إنَّ الله لا يلعب بالنرد. والمقصود هو أنَّ قوانين الطبيعة حتمية وليست احتمالية على نقيض من نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية. وبذلك المقصود بقول أينشتاين هو رفض نظرية ميكانيكا الكمّ لأنها تعتبر أنَّ الكون محكوم بقوانين طبيعية احتمالية غير حتمية. فأينشتاين بقوله السابق يُعبِّر عن رفضه لنظرية ميكانيكا الكمّ، مؤكِّداً على صدق نظريته النسبية التي تصف العالَم على أنه محكوم بقوانين حتمية على نقيض مما تصف ميكانيكا الكمّ. هكذا قول أينشتاين “إنَّ الله لا يلعب بالنرد” هو بمثابة دفاع عن نظريته العلمية واعتراض قوي ضدّ ميكانيكا الكمّ التي رفضها بشدة. من هنا عبارة أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد” تختصر الصراع العلمي القائم بين الفيزيائيين حيال قبول أم رفض نظرية ميكانيكا الكمّ.   

انقسام الفيزيائيين

الفيزيائيون منقسمون فمنهم مَن يرفض ميكانيكا الكمّ لكونها تصوّر الكون على أنه محكوم بقوانين غير حتمية كما يفعل أينشتاين والفيزيائي روجر بنروز بينما فيزيائيون آخرون يقبلون نظرية ميكانيكا الكمّ كالفيزيائي ستيفن هوكنغ. ولذا قال هوكنغ إنَّ الله حقاً لا يلعب بالنرد فقط بل يرمي أحياناً بحجارة النرد حيث لا تُرَى. وهذا يناقض موقف أينشتاين. المقصود بقول هوكنغ “إنَّ الله حقاً لا يلعب بالنرد فقط بل أحياناً يرمي حجارة النرد حيث لا تُرَى” هو أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية وليست حتمية (تماماً كما جاءت في نظرية ميكانيكا الكمّ) وأنَّ المعلومات تزول في الثقوب السوداء (المُعبَّر عن زوالها بِرمي حجارة النرد حيث لا تُرَى). وبذلك قول هوكنغ بمثابة دفاع عن نظرية ميكانيكا الكمّ القائلة بأنَّ قوانين الطبيعة احتمالية ما يناقض موقف أينشتاين المدافع عن أنَّ قوانين الطبيعة حتمية وليست احتمالية. 

فلسفة الحداثة

موقف أينشتاين موقف حداثوي بينما موقف هوكنغ موقف ما بعد حداثوي. في نموذج أينشتاين العلمي، الكون مُحدَّد لأنه محكوم بقوانين حتمية مُحدَّدة النتائج. لكن هذه هي فلسفة الحداثة التي تقول بأنَّ الكون مُحدَّد وبذلك من الممكن معرفته كما هو. من هنا موقف أينشتاين القائل بمُحدَّدية وحتمية الكون والقوانين الطبيعية موقف حداثوي. أما في نموذج هوكنغ العلمي فالكون غير مُحدَّد تماماً كما تصفه نظرية ميكانيكا الكمّ القائلة بِلا مُحدَّدية العالَم وبأنَّ قوانينه احتمالية غير حتمية (كأن يكون من غير المُحدَّد إن كان الجُسيم كالإلكترون جُسيماً أم موجة بدلاً من جُسيم). لكن فلسفة ما بعد الحداثة تعتبر أنَّ الكون غير مُحدَّد ولذا من غير الممكن معرفته كما هو. من هنا موقف هوكنغ موقف ما بعد حداثوي. 

فلسفة مختلفة

من جهة أخرى ، من الممكن طرح فلسفة مختلفة عن الفلسفات والنماذج العلمية السابقة ألا وهي فلسفة السوبر حداثة. بالنسبة إلى السوبر حداثة ، الكون غير مُحدَّد ورغم ذلك من الممكن معرفته كما هو وذلك من خلال لا مُحدَّديته بالذات. وبذلك تختلف السوبر حداثة عن موقف الحداثة القائل بمُحدَّدية الكون وإمكانية معرفته كما تختلف عن موقف ما بعد الحداثة القائل بلا مُحدَّدية الكون وعدم إمكانية معرفته. مثلٌ على تطبيق السوبر حداثة هو التالي: بما أنَّ الكون غير مُحدَّد ما هو ومما يتكوّن ، إذن تنجح النظريات العلمية وتصدق في وصف الكون وتفسيره رغم اختلافها وتعارضها كنجاح ميكانيكا الكمّ بقوانينها الاحتمالية ونجاح نظرية أينشتاين العلمية بقوانينها الحتمية وصدقهما معاً فإن كان الكون مُحدَّداً لنجحت نظرية علمية واحدة دون سواها. هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير لماذا تنجح النظريات العلمية رغم الاختلاف والتعارض فيما بينها. وبذلك رغم لا مُحدَّدية الكون من الممكن معرفته كمعرفة لماذا تنجح النظريات العلمية وتصدق وإن اختلفت وتعارضت. 

قوانين الطبيعة

في نموذج أينشتاين الحداثوي، الله لا يلعب بالنرد بينما في نموذج هوكنغ الما بعد حداثوي الله يلعب بالنرد. أما السوبر حداثة فتختلف عن النموذجيْن السابقيْن لأنها تؤكِّد على أنه من غير المُحدَّد إن كان الله يلعب بالنرد أم لا. وبذلك، بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المُحدَّد إن كانت قوانين الطبيعة احتمالية (كما تقول نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية) أم حتمية (كما تقول نظرية أينشتاين العلمية). ولذلك تتصرّف ظواهر الكون وحقائقه على أنها محكومة بقوانين طبيعية احتمالية غير حتمية كما تتصرّف على أنها محكومة بقوانين حتمية غير احتمالية في آن ما يُفسِّر نجاح نظرية ميكانيكا الكمّ الاحتمالية ونجاح نظرية أينشتاين الحتمية معاً في وصف الكون وتفسيره رغم اختلافهما وتعارضهما. هكذا تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية ما يدعم صدقها ومقبوليتها. وبذلك يصبح الله سوبر حداثوياً لأنه أنتج كوناً محكوماً بمبادىء السوبر حداثة كمبدأ أنه من غير المُحدَّد إن كان الله يلعب بالنرد أم لا الذي يتضمن أنَّ الله يلعب ولا يلعب بالنرد في آن ٍ معاً تماماً كما المبدأ العلمي القائل بأنه من غير المُحدَّد إن كان الجُسيم جُسيماً أم موجة يتضمن أنَّ الجُسيم جُسيم وموجة في آن.

تحقق كل الممكنات

يتخطى الله الحداثة وما بعد الحداثة لأنه إله سوبر حداثوي. لذلك تصدق النظريات العلمية (كنظرية ميكانيكا الكمّ ونظرية أينشتاين) رغم اختلافها والتعارض في ما بينها. فالواقع ذاته سوبر حداثوي لأنه مجموع كل الممكنات كإمكانية أن يكون حتمياً وإمكانية أن يكون غير حتمي في آن. واقعٌ صادقٌ بصدق كافة النظريات العلمية أغنى من واقع ٍ مسجون بصدق نظرية علمية واحدة دون سواها. وكونٌ متحقق بتحقق كل الممكنات رغم اختلافها وتنوّعها أغنى من كون ٍ تتحقق فيه بعض الممكنات دون سواها. هكذا يغتني الله بِغنى كونه ويغتني الكون بِغنى الله متى أصبحَ الكونُ سوبر حداثوياً بِسوبرحداثوية الله.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *