أبو شبكة … مَشاعٌ إبداعيّ

Views: 870

د.  جورج شبلي

على مَفرقٍ في طريقِ الحبّ ، نتقاطعُ أحياناً مع تُحَفٍ نادرةٍ يتّقدُ فيها النُّضج ، تُذهلُنا بالتّزاوجِ الذي تقيمُه بين طاقاتِ الزّهرِ والأفاعي ، وبذلك المَزجِ العجيبِ بين يَدِ العَناءِ وانفعالِ الغَزَل.

وفيما نحن نتقصّى تلك الغرائبيّةَ المُرَكَّبةَ من عُبوسِ الكبرياءِ وغضبِ البراكين ، لا نلمحُ غيرَ ذاك المُتَعاليَ الذي لا يُرضيه شيء ،” الياس أبو شبكة ” .

أبو شبكة (زحلة- 1946)

 

مُحتَدٌّ ثائر ، يرفضُ أن يَمنحَ أعصابَه يومَ أَحَد ، فبينه وبين التوتّرِ احتكاكٌ والتهابٌ وهجومٌ  مُتَبادَل ، ولا خَجَلَ عنده من ضجيجِ الضِّيقِ ومن عدمِ التدرّبِ على الهدوء . لقد انحرفَ أبو شبكة الى القلقِ حتى أنهكَهُ ، لكنّ القلقَ هذا لا يُقادُ من خارج ، بل من مَيلٍ في النّفسِ الى إتلافِ أيِّ رغبةٍ في المُصالحةِ مع الخوف ، ولا عَجَبَ فطبيعةُ الهزيمةِ  لا تلائمُه . وهذا “الجنونُ ” ليس عرَضاً مَرَضِيّا بِقدرِ ما هو تميّزٌ سلوكيٌّ واعٍ يرفضُ رتابةَ الحلول، فالقَبولُ بها معه ليس سوى مَزيدٍ من المَتاعبِ والتّعب. 

لقد شرّشَ هذا النّشاطُ القَلَقيُّ في نتاجِ أبي شبكة ، فقلّما يُمكنُ لشِباكٍ أن تصطادَ من بحرِ أدبِه سمكةً لا ” تُفَرفِر” . أمّا إذا أَصغيتَ الى إغلاقِ بابٍ في شِعرِه ، فلا يَسَعُك إلاّ أن تتجمّدَ أمامَ  صريرِ وحشٍ يتذكّرُ حَدَثاً أليماً أصابَه ، فيُطلِقَ للاوعيِه صُراخَه المَكبوت . لكنّ الشُّحوبَ ما يلبثُ أن يزولَ عندما تنطلقُ العِفّةُ المُرَهَّفةُ في خُيَلاءَ غيرِ هزيلة ، تُوقفُ الحربَ بين الشّاعرِ وذاته ، تتمخترُ على ذوقِها في مزاجٍ مُتقلِّب ، وتعبرُ فوق التكبّرِ والتحفّظِ الى الحِبرِ النّابضِ بالأحلام ، لترسمَ بالأناشيدِ خارطةَ فردوسٍ مَنسيٍّ في الجحيم .

غرفة نومه

 

الياس أبو شبكة المُنغّصُ باستمرار ، رسّامٌ  لم يَستعِنْ بِلَون ، بل بِشعورٍ ما كان معه قَطُّ زلّةَ قلم . وهو لم يتّكئْ على إرثٍ  طافحٍ بإبداعاتِ سابقيه، لكنّه حثّ الخُطى ليدركَ التميّزَ في حُرفةِ التصوير ، ويصنعَ مِشواراً في قاموسِ الجَمال . ألمَجازُ معه لا يُرادُ لذاته، وهو ليس حشداً مَرصوصاً من عناصرَ جامدة، ولم يكنْ للتزيينِ ولا دليلاً لامتلاكِ الشاعرِ فنَّ الزّخرفة ، بل لوضعِ حركةِ النّفسِ في مَشهديّةٍ تَليقُ بها . من هنا ، فالرمزُ في شعرِه لا سلطانَ عليه كونَه لم يُسرفْ في المبالغةِ أو في مخالفةِ الحقيقة ، وهو ليس لَغزاً، إنّه وسيلةٌ لالتقاطِ هذه الحقيقةِ التي لا يُمكنُ للحسِّ  إدراكَها، عندها فقط يترقّى الرّمزُ ليصبحَ صورةً غيرَ مُكلِفةٍ وتأشيرةً جريئةً لأثرِ النّفس ورسالةً تَنقلُ إلينا بالعدوى غيبةَ الحسِّ المُتفلّتِ من سيطرتِنا ، لندركَ بالإلهامِ كيف يُصاغُ الرّوحُ جمالاً.  

جمعَ أبو شبكة بين الإثمِ والبراءة ، بين السّخطِ والحبِّ النقيّ ، وفَاتَهُ الجمعُ بين أجوبتِه الصّارمةِ في شؤونِ الحياةِ وبين أيِّ مُجاملة، لأنّه تَفَلّتَ من طبائعِ البشر . لكنّ المُلفِتَ في تعاطيه مع موضوعِ الحبّ ، كان ذلك التحوّلَ من الشّهوةِ الهادِرةِ التي لا تَرى في المرأةِ سوى “دليلةٍ ” دائمةِ الفَحيحِ والخَطيئة ، الى الإحساسِ بصدقِ المرأةِ التي يُمكنها أن تجلوَ عن “شمشون ” عارَ الضحيّة ، وتتوبَ الى الإخلاص من غيرِ ندمٍ على السُمّ . حبيبةُ صاحبِ ” الأفاعي”، تُغري بفَحشٍ وبعِشقٍ معاً ، ولها أن تُريكَ ملاكاً في إحدى عينيها  ، والشيطانَ في الأخرى . ومهما قسا أبو شبكة في سَحقِه المرأةَ في هيكلِ الشّهوة ، غير أنّه أُغرمَ بها في كلِّ زمنِه لأنّها كانت مُقيمةً فيه ، مُلتَحِمةً مع المخدعِ الذي أعدَّه لها منذ الأزل . وقد خرجَتْ وحدَها من دونِ خِدشٍ ، في ذلك الصّراعِ  بين الحبيبةِ والغانية ، بين البريئةِ والمُتأجّجةِ الشرّ، في حين لم يستطعِ الشّاعرُ أن يَشفى من لعنتِها إلاّ بالغفران.

عصاه

 

أمّا الحريّةُ مع ” أبو شبكة ” فقد لَعنتِ القواعدَ واستعمارَ العقل ، لتنطلقَ المشاعرُ والإنفعالاتُ  على سجيّتِها ، فيرجعَ الفضلُ في الشعرِ الى تمجيدِ الوجدانِ الإنسانيِّ الذي حطّمَتْه قيودُ الكلاسيكيّةِ ومجتمعِ العمل ، وكذلك الى الابتكارِ في المَشاهدِ المُشكِّلةِ للتّجربةِ وفي ألوانِها. لقد كسرَت هذه الحريّةُ مع “أبو شبكة ” حاجزَ الرّصانة، وسلّمَتِ القيادةَ الى القلبِ الجديرِ بالعناية ، فجعلَتِ الشعرَ تقدّميّاً تِلقائيَّ التّعبير. من هنا، يُرى تَجاوزُ شعرِ ” أبو شبكة ” في أنّه شكّلَ حركةً إصلاحيّةً في زمنِ رُكودِ الإبداعِ والتّعفّنِ في الاتّباع ، ليكون الشّاعرُ هو هو يَأنسُ لذاته، مُنعَتِقاً من عناصرِ الزّمانِ والمَطارح ، لا يُحرجُه تقليدٌ فلا يستسلمُ إلاّ لِهواه .  

 أبو شبكة الرومنطيقيُّ الخطيرُ، لم يَسْلَمْ ممّا قاله فيكتور هيجو : ” إنّ على الشاعرِ أن يَنهلَ عبقريّتَه من روحِه وقلبِه ” . 

 

نظاراته وقلمه

 

  

  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *