من تنورين و إلى تنورين تعود

Views: 507

سهيل مطر

هي الأم، هي الكنيسة، هي الساحة والطريق والمدرسة، وهي ترابات الأمهات والآباء ووجوه ودموع، حكايات، قصائد ووجع القلب.

اليوم، ها نحن نعود إلى تنورين، وإلى قصرها البلدي بالذات، ومعنا صبي يقودنا بالحنان والحنين، إلى زمن الطفولة والصبا وملاعب الفتوّة.

نعود مع ذلك الصبي، خمسين سنة إلى الوراء، أكثر، أقلّ، لا همّ: “تعا تنتخبى يا جورج”…

وتعالَ معًا، نمشِ على طريق العين… أحلامٌ، أغنيات، صور صبايا صغيرات، وكلمات محفورة على شجر الحور، وتمرّد ونبض وغضب، وغدًا… نغيّر التاريخ؟

وجاء الغد، وبعد الغد، وبعد غد الغد… ولم يتغيّر التاريخ.

سقطنا في مهاوي العنف والأصولية العمياء والحروب البلهاء، وتكسّرت أحلامٌ وأجنحة، وأصبحت أغنيتنا المفضّلة: أنا من ضيّع في الأوهام عمره.

وها نحن اليوم، نؤدي الحساب  في تنورين، وأمام أهل ورفاق وأصدقاء…

تعال نعترف، نحوّل قلعة يزيدا إلى كرسي اعتراف، ونعترف: كم أخطأنا بحق تنورين، وكم أخطأنا بحق بعضنا البعض. وها أنا أضيف إلى الأخطاء خطأ جديدًا. هل هو الحسد؟ هل هي الغيرة؟ هل هو التنافس؟ أم: ابن الأخت عدوّ الخال، فاعذروني.

لقد شاركت بعشرات الاحتفالات والمناسبات التي كثر فيها تعداد صفات وإنجازات ومميزات “جورج طربيه”. في كل لبنان، وربما في كل العالم العربي، ندوات على اسمه ومعه، وحديث عن إبداعاته وأبحاثه ودراساته. وكلها ثناء وتقدير وأوسمة. ولكن لم اتهم أحدًا، مثلما سأفعل الليلة، فسامحني يا “جورج”.

أنت يا أخي، متّهم بثلاثة:

متّهم بالكثير من الجدية والرصانة. إضحك يا رجل! ابتسم، استرح… في زمن السخرية والتفاهة، أنت متّهم أنك رجل صعب. هل هي تهمة أو فضيلة؟ يا محلاها تهمة، إن رفضتها، أرجوك جيّرها لي.

متّهم بالكبرياء والتعالي وشمخة الرأس. روح طفل يثق كثيرًا بنفسه ولا يعرف انحناء، يحترم نفسه ويلتزم القيم، الكرامة، الثقافة، التربية والشعر، أصالة هويته التنوّرية والعائلية، مجده المتجدد مع زوجة وفية “مرتا”، و”فدى” حلوة و”سام” عظيم… كلها شمخة أرز لا تنكسر ولا تتوارى. الكبير كبير، الصغار وحدهم يتكابرون. فهل هذه تهمة يستحق عليها قصاصًا؟ إن كان، جيّرها لي، والآباء يغفرون.

متهم بحراك مستمرّ، كأن الريح تحته، لا يهدأ ولا يستقرّ: احتفال، ندوة، ثانوية، كتاب، مؤتمر، بيوت ثقافية، جامعة، تربية، سفر، جمعيات وجوائز، ثم حفلات تقدير وتكريم وأوسمة… متعب “جورج”، كأنه ضمير… أتعبنا ويستمرّ… ألم تتعب يا رجل؟

بالله عليكم، يجيب “جورج”، اتركوا لنا هذه اللذة، سرقتم المستقبل، صادرتم دورنا الوطني، اغتلتم فينا روح النهضة والبناء… بالله عليكم، لا تغتالوا الصوت، ولا تصادروا إرادة الحياة. كنا ونبقى، وبالقلم، بهذا القلم وحده، لا بالمال، ولا بالروح، بالدم ولا بكيماوي الاسلحة والشعارات، بهذا القلم، نستعيد لبنان -الحضارة والكرامة والحرية، لهم لبنانهم ولنا لبناننا.

أخي جورج،

أنت متهم.. اغفر لي ولهم يا أبتاه، ليت كل الخطايا تكون كخطاياك، وكل التهم… مبارك كل قلم لا يهدأ… نحن نحبك، لأن القلم الذي في يديك يمثل تنورين، حضارة وأصالة وحرية ومواقف.

 اليوم، نحن نقف على الحجر على الصخر ونقول: هؤلاء أبنائي فجئني بمثلهم.

***

(*) ألقيت في الاحتفال الذي نظمه المجلس البلدي في تنورين للبروفسور جورج طربيه بالتعاون مع جامعة آل طربيه والملتقى الثقافي للحوار اللبناني- العالمي وتجمع البيوتات الثقافية في لبنان، في 21-9- 2013 لمناسبة منحه وسام الاستحقاق اللبناني المذهب من قبل رئيس الجمهورية آنذاك العماد ميشال سليمان واليوبيل الفضي لتأسيس الملتقى.  

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *