هل تتغير قوانين الطبيعة والحقائق؟

Views: 1122

 حسن عجمي 

 يقدّم الفيزيائي لي سمولن والفيلسوف روبرتو أنغر نموذجا ً علميا ً وفلسفيا ً جديدا ً مفاده أن قوانين الفيزياء تتغير والزمن حقيقي والكون محكوم بالانتقاء الطبيعي الذي يؤدي إلى خلق أكوان جديدة. هذا النموذج يعارض النموذج المقبول من قبل معظم العلماء الذين يتفقون على أن قوانين الطبيعة ثابتة والزمن وهم لأن لغة الفيزياء ألا وهي الرياضيات خالية من مفهوم الزمن. لكن ما هي بعض النتائج الفلسفية لهذا النموذج العلمي الجديد؟ وهل تتغير الحقائق؟ يختلف الفلاسفة حول هذه القضية أيضا ً.

Roberto Unger

 

نسبية قوانين الطبيعة وتغيرها

 يعتبر كل من سمولن وأنغر أن الرياضيات ليست سوى أداة ناجحة لوصف وتفسير الكون ولا تطابق الواقع. وبذلك أن تكون الرياضيات خالية من الزمن لا يعني أن يكون الواقع خال ٍ من الزمن. فكل ما هو حقيقي هو كذلك في لحظة زمنية. ولا توجد حقائق بلا زمن كما لا توجد القوانين الطبيعية خارج الزمن. وكل شيء يتغير وبذلك القوانين الطبيعية تتغير أيضا ً. إذا كانت قوانين الطبيعة أزلية وثابتة أو بلا زمن متغير، حينها من المستحيل تفسير لماذا توجد تلك القوانين الطبيعية بدلا ً من وجود قوانين أخرى. فمن الممكن للقوانين الطبيعية أن تكون مختلفة عما هي عليه في عالمنا. ولذا لا بد من تفسير لماذا الكون محكوم بقوانينه الطبيعية بالذات بدلا ً من قوانين مختلفة. يعتمد تفسير سمولن على مسلّمته المحورية ألا وهي أن قوانين الكون نتيجة عمليات تطور ديناميكية ما يستلزم وجود الزمن وتغير قوانين الطبيعة فلا تطور بلا تغير وزمن (1).

 فكرة سمولن العلمية هي أن الكون يتطور على ضوء الإنتقاء الطبيعي الذي يحكم عالم الأحياء. فكما أن الإنتقاء الطبيعي الدارويني يختار الصفات الأفضل في الأحياء فتبقى وتستمر ما يضمن استمرارية الحياة، كذلك الإنتقاء الطبيعي يختار الأكوان الأفضل في إنجاب أكوان أخرى ما يضمن استمرارية الوجود. من منظور هذه النظرية، تولد أكوان جديدة في الثقوب السوداء، وبذلك الكون الذي يمتلك ثقوبا ً سوداء أكثر ينجب أكوانا ً جديدة بأعداد أكبر. ولذا يختار الإنتقاء الطبيعي الأكوان الحاوية على أكبر عدد من الثقوب السوداء. من هنا، إختار الإنتقاء الطبيعي وجود عالمنا بقوانينه الطبيعية بالذات لإحتوائه على أعداد كثيرة من الثقوب السوداء الموزعة ضمن المجرات. يصوّر سمولن موقفه من الثقوب السوداء على النحو التالي: حين يموت النجم ويتحوّل إلى ثقب أسود يبتلع كل شيء من حوله فتنصهر معلوماته المبتلعة بكثافة هائلة ما يؤدي به إلى أن يقفز ويمتد فينشأ كون جديد (المرجع السابق). على هذا الأساس، من الممكن الاستنتاج بأن البعث والتقمص يحكمان الكون المادي كما يحكمان العقل الديني والصوفي. هنا يتزاوج العقل العلمي مع العقل الديني كما تتزاوج البيولوجيا المحكومة بالانتقاء الطبيعي مع الفيزياء المحكومة بمبدأ الانتقاء نفسه. 

 بالنسبة إلى سمولن، ينتقل عالمنا من كون إلى آخر مختلف في قوانينه وحقائقه عن عالمنا الأم. للكون أبناء يرثون صفات الكون الأم. وكما يتغير الأبناء تدريجيا ً عن الآباء تتغير قوانين وحقائق الأكوان – الأبناء عن قوانين وحقائق الأكوان – الآباء. من هنا تتغير القوانين الطبيعية مع انتقال عالمنا من كون معين إلى كون آخر مختلف. على هذا الأساس، ثمة انفجارات عظمى عديدة أنتجت أكوانا ً ممكنة مختلفة. والوجود ليس سوى كل الأكوان الممكنة التي تولد من بعضها البعض رغم وجود كل كون في فترة زمنية منفصلة عن أزمنة وجود الأكوان الأخرى. هكذا تحوّل الوجود المادي إلى عالم من الأحياء تحكمه قوانين الكائنات الحية كالانتقاء الطبيعي. بهذا المعنى، الكون حي ولذا يتطور ويتغير (المرجع السابق).

Harry G. Frankfurt

 

نسبية الحقائق وتغيرها

 إذا كانت القوانين الطبيعية تتغير، إذن لا بد أن تتغير الحقائق أيضا ً فتصبح نسبية. لقد عبّر الفيلسوف توماس كون عن هذا الاتجاه في فلسفته القائلة بأن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة بل هي فقط مقبولة بسبب نجاحاتها. بالنسبة إليه، أية نظرية علمية تحمل في مضامينها معيار الحكم على ما هو حقيقي وتختلف معايير الحكم على ما هو صادق أو كاذب من نظرية علمية إلى أخرى. وبذلك إذا حاولنا أن نبرهن على صدق نظرية علمية معينة دون غيرها من خلال استخدام الحقائق أو ما هو صادق سنقع في المصادرة على المطلوب المرفوض منطقيا ً أي حينها سنسلّم مُسبَقا ً بصدق النظرية التي نريد البرهنة على صدقها فنقبلها على أنها صادقة دون سواها من دون دليل موضوعي. وهذا لكون الحقائق نسبية ومختلفة من نموذج علمي إلى آخر. من هنا يستنتج توماس كون أن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة فالحقائق مختلفة ومتغيرة باختلاف النظريات العلمية. فمثلا ً، الزمن مطلق وليس نسبيا ً في نظرية نيوتن العلمية لكنه نسبي في نظرية النسبية لأينشتاين، والقوانين الطبيعية احتمالية في نظرية ميكانيكا الكم بينما هي حتمية في نموذج أينشتاين العلمي. هكذا تختلف الحقائق وتتغير تماما ً كما تختلف وتتغير القوانين الطبيعية (2). على هذا الأساس، بالنسبة إلى توماس كون، مصطلحا الصدق والكذب أصبحا بلا قيمة، ومفهوم الحقيقة أمسى بلا دلالة موضوعية على ما هو قائم في الوجود بل الحقيقة تحوّلت إلى بناء عقلي يختلف باختلاف العقول.

 لكن بعض الفلاسفة الآخرين كالفيلسوف هيري فرانكفورت يرفضون تهميش مفاهيم ما هو صادق وكاذب وما هو حقيقي في الواقع وما هو بلا دلالة واقعية. بالنسبة إلى فرانكفورت، القول الصادق أو الحقيقي مهم لأنه مفيد فالقول الكاذب مضر بالعقل طبعا ً. ويعتبر أنه لا بد من التمييز بين القول الصادق والقول الكاذب لأننا إن لم نفعل ذلك لن نتمكن من الإجابة على ما إذا كنا نعتقد بصدق ما نقول أم لا ما يقضي على أي حوار ومناقشة ولغة. يرفض فرانكفورت فكرة أن الحقيقة نسبية وشخصية بدلا ً من أن تكون واقعية. يقول إن الحقيقة واقعية وليست نسبية ومختلفة من فرد إلى آخر وإلا لم نتمكن من بناء جسور وكل الأشياء الأخرى على ضوء الحقائق المعروفة لدينا. فقدرتنا على بناء ما نبني في الواقع تبرهن على أننا ننجح في الوصول إلى الحقائق الموضوعية وغير النسبية. والحقيقة الموضوعية القائمة في الواقع ليست فقط نافعة في إنشاء محيطنا الإنساني بل تمكننا أيضا ً من معرفة العالم بفضل موضوعيتها ولا نسبيتها (3).

Lee Smolin

 

الصادق والكاذب  

 من الممكن تقديم حل لهذا الصراع الفلسفي والعلمي بين القائلين بنسبية الحقائق والقوانين الطبيعية وتغيرها والقائلين بلا نسبيتها ولا تغيرها، وذلك اعتمادا ً على فلسفة السوبر مستقبلية. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية، الحقيقة قرار علمي في المستقبل. وبما أن الحقائق هي قرارات علمية في المستقبل، إذن من الطبيعي أن تتغير في الحاضر والماضي وتختلف لكونها تتحقق في المستقبل ولا تكتمل في حاضرنا أو ماضينا. هكذا تنجح السوبر مستقبلية في التعبير عن نسبية الحقائق واختلافها رغم وجود الحقائق الموضوعية وتطابقها مع الواقع لكونها قرارات علمية مستقبلية فصادقة في المستقبل على ضوء إنتاج العلماء لنظريات مستقبلية مطابقة للواقع. وبذلك تتمكن السوبر مستقبلية من التوحيد بين المذهب الفلسفي القائل بنسبية الحقائق والمذهب الآخر القائل بأن الحقائق غير نسبية فتحل السوبر مستقبلية هذا الخلاف الفكري ما يدعم مصداقيتها. بالإضافة إلى ذلك، بما أن الحقائق قرارات علمية في المستقبل، إذن توجد أقوال فنظريات صادقة معبِّرة عن تلك الحقائق ( وإن لم نكن نعلمها الآن ) في مقابل أقوال ونظريات كاذبة رغم اختلاف ونسبية ما هو صادق. وبذلك رغم أن الأقوال الصادقة نسبية ومختلفة لا بد من التمييز بين الصادق والكاذب، ومصطلحا الصدق والكذب مصطلحان بدلالتيْن موضوعيتيْن على ما هو موجود أو غير موجود في الواقع. من هنا تنجح السوبر مستقبلية أيضا ً في الجمع بين الموقف النسبي الشكي الرافض للتمييز الجذري بين الصادق والكاذب والموقف اللاشكي غير النسبي القائل بالتمييز بينهما لكونها تؤكد على نسبية الحقائق في الحاضر والماضي ولا نسبيتها في المستقبل. هكذا تحل السوبر مستقبلية الخلاف والاختلاف بين المذهبيْن السابقيْن فتكتسب مقبوليتها. على ضوء هذا الحل السوبر مستقبلي تصبح الحقائق فالقوانين الطبيعية متغيرة ونسبية وغير متغيرة ولا نسبية في آن لكونها نسبية وتتغير في الحاضر والماضي لكنها غير نسبية ولا تتغير في المستقبل المعتمد على صياغتنا له ولعلومه. 

Thomas Kuhn

 

 لكن المستقبل يبقى مستقبلا ً لكونه لا يتحقق كليا ً في الحاضر والماضي. لذا الحقيقة كقرار علمي في المستقبل تحررنا من حقائق الماضي وتجعل الحقائق معتمدة علينا في تكوينها لكونها قرارات علمية يتخذها العلماء. هكذا تحررنا الحقائق السوبر مستقبلية. فكما تحررنا نسبية الحقيقة يحررنا صدقها. فنسبية الحقيقة تسمح لنا أن نختلف فنتحرر باختلافنا. وواقعية أو صدقية الحقيقة تسمح لنا أن نمتلك معرفة الحقائق فنتحرر أيضا. إنسان بلا حقيقة متغيرة إنسان لا يتغير فلا يتطور. وإنسان بلا حقيقة صادقة إنسان لا يصدق. وإنسان بلا تغير وصدق شبه إنسان. 

***

المراجع

1-Roberto Unger and Lee Smolin : The Singular Universe and the Reality of Time. 2014. Cambridge University Press.  

2-Thomas Kuhn : The Structure of Scientific Revolutions. Fourth Edition. 2012. University of Chicago Press.

3-Harry G. Frankfurt : On Truth. 2006. Knopf.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *