مَاتَ نَمْرُود عَاشَ نَمْرُود

Views: 294

الأب كميل مبارك

في غَمْرَةِ التَّجَاذُباتِ العَقَائِدِيَّةِ والانْحِرَافَاتِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتي يَعيشُها مُعْظَمُ النَّاسِ في مَنَاطِقَ كثيرةٍ مِنَ العَالَم، ومِنْ مَنْطِقَةِ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ على وَجْهِ التَّحْديد، يَبْحَثُ المُصْلِحونَ الِاجْتِمَاعِيُّونَ وأَرْبَابُ الشَّأْنِ، عَنْ أَسَاليبَ فَعَّالَةٍ تَجْمَعُ المُتَخَاصِمينَ، أَو في الأَقَلِّ، تَفْتَحُ أَمَامَهُم طَريقَ التَّحَاوُرِ، مِنْ أَجْلِ مُعَالَجَةِ الِانْشِقَاقَاتِ ورَأْبِ التَصَدُّعَاتِ الَّتي أَصَابَتِ العُقُولَ والنُّفُوس، فانْعَكَسَتْ على تَصَرُّفاتِهِم وسُلوكِيَّاتِهِم الفَرْدِيَّةِ والجَمَاعِيَّة، وبَاتَ كُلُّ فَريق لا يَرَى في مَنْ يُخَالِفُه الرَّأْيَ أَو لا يَتَوَافَقُ مَعَهُ، إلاَّ العَدُوَّ الَّذي يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْه، لا في إبْعَادِهِ عَنْ سَاحَةِ الشَّأْنِ العام، بَلْ في مَحْوِه مِنَ الوُجودِ قَتْلاً وتَهْجيرًا، وكَأَنَّ هذا الآخَرَ لا تَليقُ بهِ الحَياةُ، ولا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَيَّةِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الِإنْسَان، إلّاَ بالشَّكْلِ، إذَا شَاءَ خُصُومُه أَنْ يَحْفَظُوا له شَكْلَ الِإنْسَانِ بَعْدَ التَّشْويهِ والبَتْرِ والقَطْع.

الغَريبُ في الأَمْرِ والمُسْتَهْجَن، أَنَّ جَميعَ المُحَاوَلاتِ بَاءَتْ بالفَشَل، ولَمْ يَصِلِ العُقَلاءُ وأَصْحَابُ الِإراداتِ الحَسَنَةِ مِنْ جَميعِ بَني البَشَر، إلى شِبْهِ مَشْرُوعٍ لمُدَاوَاةِ العِلَلِ المُسْتَعْصِيَةِ والأَمْرَاضِ الاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتي تَفَشَّتْ في خَلايَا المُجْتَمَعِ، صَغيرةً وكَبيرةً، وبَاتَ مِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ يَدَ الشَّرِّ تَعْبَثُ في النَّاسِ وتَضْرِبُ عُقُولَ أَهْلِ الشَّأْنِ وأَصْحَابِ القَرارِ، مِمَّا سَهَّلَ التَّمَادِيَ في الشَّرِّ، تَحْتَ سِتارِ فِعْلِ الخَيْر، وحَلَّل القَتْلَ وإزْهاقَ الأَرْواحِ كَشَكْلٍ مِنْ أَشْكالِ عِبادَةِ الله وطَلَبِ تَكْريمِه وتَكْبيرِه وتَسْبيحِه وتَمْجيدِه. ما حَدَا بِبَعْضِ المُفكِّرينَ إلى القَوْلِ إنَّ كُلَّ جُهْدِ العُقولِ لم يُفْلِحْ في إيصالِ نورِ الحَقِّ إلى واحِدٍ مِنَ القُلوبِ المُظْلِمَة.

فَيَا أَهْلَ الخَيْر، إذَا شِئْتُم الوُصولَ بالمُجْتَمَعاتِ المُتَنَاحِرَةِ، إلى طَريق يُؤَدِّي بِهِم إلى نَوْعٍ مِنَ التَّفاهُم على قَوَاسِمَ مُشْتَرَكَةٍ تَجْمَعُ الثَّقافاتِ والدِّيَاناتِ والعرْقيَّاتِ وكُلَّ وُجوهِ الاخْتِلاف، مِنْ أَجْلِ بِنَاءِ حَضَارَةٍ تَقرُبُ مِنَ السَّلام إنْ لَمْ تَحْيَ فيه، فَمَا عَلَيْكُم إلّاَ اسْتِيحَاءُ مَا جَرَى في يَوْم العَنْصَرَةِ، ونَحْنُ اليَوْمَ نَعيشُ زَمَانَها كَنَسِيًّا. يَوْمَها انْفَتَحَتِ القُلوبُ والعُقُولُ وفَهِمَ النَّاسُ على الرُّسُلِ كُلٌّ في لُغَتِه، وسَقَطَ بُرْجُ بَابِلَ وانْتَهَى زَمَنُ النَّمْرودِ الأَسْوَدُ.

لَقَدْ فَعَلَ الرُّوحُ فِعْلَه وأَنَارَ العُقولَ فلَمَعَتْ فيها صورةُ الِإنْسَانِ الحَقِّ المَوْجُودَةُ في كُلِّ ذي طَبْعٍ بَشَرِيٍّ إلى أَيِّ عِرْقٍ انْتَمَى أَوْ مَذْهَبٍ اعْتَنَق. ونَحْنُ اليَوْمَ لَنْ نَصِلَ إلى أَيِّ بابٍ مِنْ أَبْوَاب التَّفاهُم أَو التَّحَاوُر، إلّاَ إذَا فَتَحَ قادَةُ المُجْتَمَعَاتِ وأَفْرادُها عُقُولَهُم وقُلُوبَهُم للرُّوحِ القُدُس، روحِ الحَقِّ الَّذي يُرْشِدُ إلى الخَيْرِ ويَفْتَحُ الطَّريقَ أَمَامَ جَميعِ الرَّاغِبينَ فيه، للوُصُولِ إلى حَضَارَةِ المَحَبَّة. أَمَّا وقد أَقْفَلَ كَثيرٌ مِنَ الدُّوَلِ ومِنْ قَبَائِلِ الأَرْضِ، البَابَ في وَجْهِ الرُّوح، ورَفَضُوا دُخُولَه، ورَفَضُوا كَلامَهُ، وأَنْكَروا وُجودَهُ، فلَنْ يَصِلَ السَّلامُ إلى دِيَارٍ غَابَ عَنْها روحُ إلهِ المَحَبَّةِ والسَّلام، وتَرَبَّعَ على عُرُوشِ زَبَانيَتِها روحُ الشَّرِّ والانْقِسَام، الَّذي لَوْ كانَ يَعْرِفُ الفَرَحَ، لَفَرِحَ لِكُلِّ رَأْسٍ يُقْطَعُ ويَدٍ تُبْتَرُ وروحٍ تُزْهَقُ وبَيْتٍ يُهْدَمُ وطِفْلٍ يُعدَمُ.

أَللهُمَّ اهْدِ مَنْ طَلَبَ الهُدَى، وانْظُرْ إلى الأَرْضِ ولا تَتْرُكْها للسَّلَّب.

(حزيران – يونيو، 2015)

***

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” (2018)، يتضمن افتتاحيات الأب كميل مبارك في مجلة “الرعية” بين 2007 و2017.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *