أم كلثوم…كوكب الشّرق (في ذكرى رحيلِها)

Views: 938

د. جورج شبلي

أيّةُ أَكلةٍ للشَّرق، من دون أم كلثوم، ليس معها غَصَص، وأيّة شربة من دونها لم تقف في حَلقه؟

ليس الشأن هنا في إيراد مفهوم للمَغنى، لأنّ المَغنى يعرفه العربيّ والعَجميّ، والمَدَنيّ والريفيّ، وإنّما هو في جودة المَغنى وحُسنه وبهائه، أو قُل في مَدار الإعجاز الذي فيه، والذي لم يُعطَ إلاّ للنّادرين، وفي أوّلهم أم كلثوم. 

 

كانت أم كلثوم ماهرة في صياغة العقد المنظوم في الأداء من حَبّات الجُمان، إذ جعلت كلّ خرزة منه الى ما يليق بها، فاقتحمت الأسماع بجودة المَطالع واستواء التقاسيم وكمال الصَّوغ، ليبقى رصفها في الأذهان والأذواق فوق ما يستطيع المُنتشي نسيانه. وهي مع المُجيدين من مُحترِفي الغناء، نمط جَزِل يفهمونه من دون طمعٍ في التماسه لعجزهم عنه، حتى أنّ الكثيرين منهم يقرّون بالذَّنب لأنهم امتهنوا المغنى، ويعترفون بالجُرم لأنهم استمرّوا فيه وأم كلثوم موجودة. وقد استقبل الذوّاقة صنيع هؤلاء بغير قبول العذر، فحديث التّوبة لا يمحو ما تركوه ركاماً من المبتذلات والإساءة.

 

الكثيرون وثقوا بالأيام لأنها أنجبت أم كلثوم، هذه التي كانت نزهةً للمَسامع، فقد كان ما بينهم وبينها من أواصر، ما كان بين الحبيب والخُلصاء من مَزج المهجة بالمهجة. ومن بعدها ما ضاء لهم نهار، لأنه كابدَ قرحاً أليماً ولم يملك دموعه، فقطرُها بخدِّه ترك النّدوب. لقد لبس صوتها الزُّلالُ ديباجة الملاحة فكأنّ فار المسك فُتَّ في جلبابه، وكأنّما لَحَظَهُ الفَلك فصاغه من ليله ونهاره، وحلاّه بنجومه وأقماره، ونقّشه ببدائع آثاره. هو صوتٌ بماء الحُسن مغسول، في مَلاحظه سحر، وفي ملافظه شَهد، وهو وحده المَجاز الذي عَدّته البلاغة حقيقة. من هنا، فإنّ كلّ مقطوعة أدّتها أم كلثوم، في العامية أو الفصحى، كانت من نوادر الطَّرب البليغ. أمّا سرّ حياة أغانيها، فهو الحياة التي ضخّتها روح أم كلثوم في كلّ نبرة من نبراتها، فلم تُمحَ من هوى القلوب أطايبُها التي تسكرها كلما اصطحبتها بلقاء.

لقد ملأت أم كلثوم زمانها سَمعه وبَصره بغزير بحرها، وشغلت حيّز عصرها بإبداعها، فاختصّها بإعظامٍ جعله يمتطي ظهر التّيه. خاصةً وأنّه عندما رُفع النّقاب عن صفحات زمن ما قبل أم كلثوم، وكُشفت الضّبابات عن عينيه، بانت الصُّدوع في جوانح 

 

الموسيقى والغناء، صدوعٌ لم يلاحمها سوى صوت أم كلثوم، وفي هذا فضلٌ ليس منه فَرار. وقد قيل:

لو لم تكن في عصرها، لكان العصر ثقيل الطّلعة وأوحش من شخص الظالم في عين المظلوم. 

صوت أم كلثوم مقياس ضابط لما يصلح له الغناء في جميع الأجيال، ومن دون استعراضات، فهو صوت استجابت له المهارات وطاوعته القدرات ليغطّي منطقة الأداء بأفضل مواصفات الجمال. وكان عن حقّ مثالاً لما يُسَمّى في علم الموسيقى ” تيسيتورا”، أي استكمال المساحة الصوتية للمغنّي من دون استخدام الأصوات المتطرّفة. فأم كلثوم تجمع في صوتها إمكانية الإرتفاع بمرونة الى الطبقات الحادة ” السوبرانيّة “، مع خامة الأسلوب العاطفي الرّقيق الذي يمتاز بالعذوبة الغنائيّة. وهي إذ تتصرّف ببراعة في المقامات التي تُكسب النّفس لذّة، وتلك التي تُحدث فيها انفعالات وتخيّلات مختلفة الألوان، يكتمل معها عقد المجد الصّوتي فتنهض “بابل” وكأنّها جُرِّعت رحيق الإنبعاث. وكأنّ أم كلثوم، في هذا، تؤكّد على أنّ الصّوت صُنع تشكيلُه من قبل الفنّ.

 

لصوت أم كلثوم طابع معماريّ ولكن من دون أن تأسره المادة المكانية، فقد جمعت ” السِت ” كميّة الذكاء مع القدرة الصوتية فكانت نسيج وحدها في تزويج البيان من النّغمة، وكانت أوتار صوتها تبارك الزواج برشّ الأرزّ وبالزغاريد. وهي، بصوتها القادر، استطاعت دائماً إثبات وجودها ضمن حشد الأوركسترا، ومن دون علاقات نِسَب، فالأشكال الّلحنية النّاجزة تعبر أم كلثوم فوقها لتُمَوسقها، فتنتقل معها من موضوعٍ لِسَمَع الى موضوعٍ لِمُتعة. وهكذا، يتعذّر أن نستمع الى هذه العملاقة من دون إقحام لعنديّاتها الإرتجالية التي لم تكن مرّةً فائضة عن الحاجة. 

الطّرب مع أم كلثوم هروب من الوحدة والوحشة الى ملاحة السّفر فوق جناح المتعة، وكأنّك تقطف بفمِك ورداً من خدّ حبيبك وهو مُمتنِع القطف عن سواك. وفي طرب أم كلثوم لا مكان للحواس ولكن لصحبة الإنفعال بالإندماج، حيث تصبح الأرواح طوع عُربة أو قفلة أو دَور، هذه التي تحالفت جيّداتها أن لا يُداوى لها صريع. والطَّرب الكلثوميّ الرّاقي الذي يتطلّب مهارات صوتية عالية المستوى، أصبح اليوم قالباً تراثياً لا يُنتَج منه جديد، باندثار الفئة القليلة العدد والتي كانت قادرة نوعاً على الإقتراب منه.  

 

كوكب الشَّرق، هذه الرحلة الشيّقة في حضارة الموسيقى، قد ارتقت بالذّوق العام العربي من البسمة الى النّشوة، فصحّ فيها أنّ مَن استمع الى صوت أم كلثوم استغنى عن سائر الّلذات. وبعد، لو قيل لزمن أم كلثوم، إرجع الى أهلك من دونها، لما بقي معه شيء.

   

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *