معهدٌ فنِّيٌ يُشرِقُ من رَحَمِ الرُّهبانيَّةِ الأنطونيَّة

Views: 1104

لميا أ. و. الدويهي

متى تحدَّثتَ عن العراقة في الفكر والانفتاح والثَّقافة الرُّوحيَّة والقداسة، تستحضرُ أمامَ ناظرَيكَ الرُّهبانيَّةِ الأنطونيَّة التي انقضى على تأسيسها ثلاثة قرونٍ، على يد المطران جبرائيل البلوزاوي أسقف حلب آنذاك، وقد تفرَّعَ منها عدَّة مؤسَّساتٍ تربويَّة وروحيَّة انتشرَت في كافَّة أنحاءِ لبنان وكان لها امتدادٌ في بلاد الاغتراب، وكأنَّها تجمعُ الأقطاب وتُلاقي القارَّات لتنشرَ رسالةَ سلامٍ ومحبَّةٍ وانفتاح وتُضيءَ كالنيِّرات التي تدلُّ على شمسِ الحقّ وتخدمُ بأمانةِ مارون وثباتِ وتجرُّدِ أنطونيوس الكبير، أب الرُّهبان وشفيع هذه الرُّهبانيَّة المُستنيرةِ بهالتِهِ المُقدَّسة…

لميا الدويهي

 

إنَّهم رُهبان، تسلَّحَ كُلٌّ منهم بوزناتِهِ وخرجوا إلى حقلِ الرَّب ليُتاجروا بها، كلٌّ بحسبِ موهبتِهِ ورؤيتِهِ، مُستَقينَ زادهم من نذورِهم المؤبَّدة «الفقر والطَّاعة والعفَّة»… وتشاركوا مع علمانيِّين في هذا الحقلِ، حقلِ العالمِ الفسيح، فهم المنذورون ونحنُ العلمانيُّون، نُشكِّلُ معًا البيعة التي لأجلِها تألَّمَ المسيح لتكونَ واحدة في كُلِّ مَساعيها، تُعلنَ البشرى للخلقِ أجمع في أرجاءِ المسكونةِ…

وتوالى على سُدَّةِ رئاستِها العديد من الرؤساءِ العامِّين الجليليِّين والذين أصبحوا في حضرةِ الله من بعد تأديةِ جهادهم على الأرض… طبعًا لا يزالُ بعضهم على قيدِ الحياة ونذكُرُ من بينِهم سيادة المطران سمعان عطالله الذي تولَّى الرئاسةِ العامَّة في الرُّهبانيَّةِ الأنطونيَّة من العام ١٩٩٩ حتى العام ٢٠٠٥ وفي عهده أبصرتِ النُّور فكرةُ إنشاءِ معهدٍ حرفيّ يُعلِّم الرُّهبان فنّ الفسيفساء، كانت قد لاحت في الأفق في عهدِ سلفِهِ المرحوم الأباتي حنَّا سليم، وحين صادفَ وجوده في إيطاليا، عملِ على إنشاء توأمة ما بين المعهد في لبنان  ورافينَّا في إيطاليا، المعروفة باسم عاصمة الفسيفساء، لكونِها كانت لقرونٍ عديدة عاصمة روما الغربيَّة – البيزنطيَّة إذ أنَّ الإمبراطور تيودوسيوس كان قد قسَّم المملكة بينَ ولدَيه هونوريوس وأركاديوس، وأولى أحدهما على المقاطعة الغربية وعاصمتها رافينا والثاني على المقاطعة الشرقيَّة وعاصمتها بيزنطيا…

فتح المعهد أبوابه، بادئ ذي بدء في دير الرئاسة العامَّة في مار روكوز تحت إشراف الأب شربل داوود، قبل أن يتمَّ نقلَهُ في ما بعد إلى مقرِّهِ الحالي في مركز مار روحانا، أيضًا في الدكوانة. وقد تمَّ استقدام حرفيِّين من رافينا لتعليم الأصول البيزنطيَّة التقليديَّة للفسيفساء، فكان المعهد الفنّي الأنطوني أوَّل معهد والوحيد الذي يُعلِّم هذه التقنيَّة في لبنان… ما لبث هذا المعهد أن فتحَ أبوابهُ أمام العلمانيِّين، حيثُ فاق عدد الطلبة الراغبين بتعلُّم فنّ الفسيفساء، في السَّنةِ الأولى، الـ ٦٥ طالبًا…

الأب شربل بو عبُّود

 

في عهد الأباتي بولس التنوري استلم إدارة المعهد الفنِّي الأنطوني الأب شربل بو عبُّود العائد حديثًا من روما، حيث تابع إلى جانب دراسته اللَّاهوتيَّة، أصول كتابة الأيقونات المقدَّسة على يد الأستاذ اليوناني ستيفانو أرماكولاس، الذي تمَّ استقطابه إلى لبنان من قبل المعهد في مرحلةٍ لاحقة والذي زيَّن جداريَّة كنيسة الرئاسة العامَّة في مار روكوز بأيقونات السيّد المسيح المُحاط عن يمينه بوالدة الإله وعن يساره بالقديس يوحنَّا المعمدان وحولهم الرسل الإثنَي عشر…

لدى استلامه إدارة المعهد، خالجت الأب بوعبُّود الرَّغبة بتطويره، ليليقَ باسم الرَّهبنةِ التي حمَّلتهُ هذه الأمانة، بدءًا بالأباتي التنُّوري فالأباتي داوود الرعيدي ونائبه الأباتي راجح الذين رَعوا كافَّة نشاطات المعهد على مرِّ سنيّ رئاستهما مع الأب مارون بورحال الذي كان رئيس دير مار روكز آنذاك والمركز الذي يتبع له المعهد… فقرَّر فتح قسم الأيقونات مُستعملًا أدواته ومستلزماته الخاصَّة والتي كان قد جلبها معه من روما… لقد كانت لديهِ رؤيةً خاصَّة لهذا المعهد الذي شاءَه منبرًا للثَّقافة والفنّ، نافذةً تُطلُّ على العالم الماديّ من الروحانيَّة المُتجسِّدة في الأيقونة والتي تجمعُ من حَولها كُلَّ الآطياف… فبدأ بالعملِ على تطوير العلاقات الإجتماعيَّة ليبنيَ لهذا المعهد سمعةً تليقُ بالفنونِ التي يُدرِّبُ عليها وبالرَّهبنةِ التي ائتمنتهُ على وديعتِها… وبما أنَّ طموحَهُ لا حدَّ لهُ، بدأ باستقطاب أهمّ الفنَّانين من المدارس كافَّة، إن محليِّين وإن من المدرسة الحلبيَّة أو الرُّوسيَّة أو اليونانيَّة وغيرها، لتدريبِ الطلَّاب على كافَّةِ الأساليب الفنيَّة المتَّبعة، ولخلقِ مجالاتٍ جديدةٍ للعمل، كما ونظَّمَ المحاضرات التي استدعى إليها عدد من البطاركة والمطارنة وذوي الاختصاص في كتابة الأيقونة…

 

لم يكتفِ بهذا القدر، بل عمل على افتتاح أقسام أخرى متعدِّدة وبمراحل مُتتالية، خلال الإثنتَي عشر سنة التي تعاقب من خلالها على إدارةِ هذا المعهد: قسم الفنِّ التَّشكيلي، قسم الليموج، قسم الخط العربي، قسم الdot mandala  ومؤخرًا قسم التَّطريز، وقد منَّ عليهِ القدير بفريق عملٍ آمنَ برؤيته وبالمعهد وناصره في خضمِّ كلِّ الصعوبات التي واجهته، إلى أن حقَّق القاعدة التي بنى عليها أسُسَ المعهد الذي نرى نتاجه مُوزَّعًا على كافَّةِ الأراضي اللبنانيَّة، ولم يكتفِ بهذا القدر، فحملَ رايةَ الأيقونة إلى كافَّةِ المناطق ليُقيمَ الدَّورات لمَن تعذَّرَ عليهِ الوصولِ إلى المعهد… وها هو المعهدُ اليوم ينطلقُ كسهمٍ ليستقرَّ كوسامٍ رفيعٍ على واجهةِ المعاهد الفنيَّة، باعثًا رذاذَ الجمال والإبداع حيثما لاحَ اسمهُ…

هي مَسيرةُ سنين طوال لا تُختَصرُ بصفحاتٍ قليلة وإنَما لتسليطِ الضَّوء على بريقٍ ومضَ في سماءِ رُهبانيَّةٍ بفضلِ ما يُقدِّمُهُ من فنونٍ تَسمو نحو الخالقِ في العُمقِ وتفتحُ أُفقًا جددة  لمَن أرادها؛ فليسَ مَن يعملُ لمجدِهِ الخاص هو مَن ينجح ، وإنَّما مَن يعملُ بتجرُّدٍ وأمانةٍ ومحبَّة ويضعُ نُصبَ عَينَيهِ الغاية التي لأجلها دُعيَ، هو الذي يَتباركُ من علياء ويثبتُ عملهُ إلى المُنتهى…

                                                                                                              ١/ ٣/ ٢٠٢٠

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *