إِيرْنَانْ كُورْتِيسْ المُكتشف الذي غَزَا المكسيك في حياته ومماته !

Views: 1226

 د. محمّد محمّد الخطاّبي

كان العالم الأنثروبولوجي المكسيكي” سيزار موهينو” قد عثر لأوّل مرّة خلال عملية إعادة ترتيب وتصنيف الوثائق التاريخية العتيقة بإحدى المكتبات المكسيكية القديمة، على مخطوط  نادر لم يسبق نشره من قبل، يعود للمستكشف الإسباني المعروف “إيرنان كورتيس” ويلقي هذا المخطوط أضواء جديدة على حياة هذا الرجل الذي هام هياما شديدا ببلاد المكسيك ، مرتع إمبراطوريات المايا والأزتيك ، ولعب دورا محوريّا ورئيسيّا فى غزوها ، وبسط نفوذ التاج الإسباني فى العالم الجديد. كما يزيح الستارعن حقائق مثيرة في تاريخ القارة الأميركية وبشكل خاص في المكسيك. ويحمل هذا المخطوط  تاريخ 23 سبتمبر 1524 حيث يسلّم بموجبه كورطيس مجموعة من الأراضي إلى أحد الجنود الإسبان الذي شارك معه في غزو المكسيك عام 1521 المسمّى “أندريس طابيا” . و بعد الفحوص والتحاليل التي أجريت على هذا المخطوط  خاصّة نوعية الحبر والورق المستعملين فيه، وكذا التوقيع الذي يحمله للتّأكّد من صحّته وأقدميّته، تبيّن أن هذه الوثيقة التاريخية حقيقية لا يرقى إليها الشكّ ، كما أنّه لم يسبق أن إستخرجها أو إطّلع عليها أحد من قبل ، أيّ منذ 1524.

 

الحسناء مَالينتشيِ 

هذا المخطوط  النادر هو من الأهميّة  بمكان لفهم كيف كان يتمّ تنظيم وإعداد المدن الإستعمارية الأولى التي أقامها الإسبان في العالم الجديد بعد غزوهم لهذه القارة البكر،. كما أزاح  هذا المخطوط الغميس الستار عن العديد من الحقائق المثيرة التى واكبت عملية الغزو ، مثل نوعية العلاقات التي كانت تربط كورتيس بمعاونيه، أو مع زعماء السكان الأصليين، فضلا عن حبّه الكبير، وتعلّقه العميق بالمكسيك،- على الرّغم من التقتيل والتنكيل الذي مارسه ضدّ أهلها وسكّانها، وهيامه وعشقه للمرأة الهندية التي تُدعى “دونيا مارينا ” والمعروفة باسم ” مالينتشي”التي أغْرِم بها غراما شديدا.  وكان قد سباها بعد الهزيمة التي ألحقها بالسكان الأصلييّن في المكسيك ، حيث تسلّم نظير هذا الإنتصار العسكري ما يزيد على عشرين من النساء ، وكانت من بينهنّ هذه المرأة التى لابدّ أنّها كانت على قدر كبير وباهر من الحُسن والجمال ، بل ومن الفطنة والدهاء ، والتى بصمت تاريخ المكسيك في ذلك الوقت، ولعبت دورا هاما وحاسما في حياة إيرنان كورتيس نفسه ، والتى أصبحت في ما بعد من أقرب وأعزّ محظياته ،  كما كانت تترجم له مع زعماء السكان الأصليين نظرا لمعرفتها لمختلف اللغات الأصلية المكسيكية، وإجادتها للّغة الإسبانية بسرعة فائقة في زمن وجيز.

 

كورتيس فى  سطور

كان إيرنان كورتيس من أبرز المستكشفين في القرن الخامس عشر إلى جانب كريستوفر كولومبوس ،وفرانسيسكو بيثارّو وآخرين ، ولد عام 1485 في مدينة «ميدييّن» بإقليم باداخوث (غرب إسبانيا بالقرب من الحدود البرتغالية)، وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره إنتقل إلى جزيرة «إسبانيولا»الواقعة في أرخبيل الأنتيل في الكرايب ، حيث عيّن في منصب كاتب عمومي. وفي عام 1511 إنضمّ الى الأسطول الذي غزا جزيرة كوبا أواخر عام 1518، وقد عيّنه حاكم هذه الجزيرة دييغو فيلاسكيز قائداً للأسطول الذي وُكلت إليه مهمّة إستعمار بعض الجزر المجاورة لجنوب القارة الأميركية. وفي فبراير من عام 1519 وصل كورطيس إلى المكسيك بعدأن ألحق بأسطوله العديد من الجنود البحّارة الاسبان الذين إنتشلهم من عرض البحر بعد أن غرقت سفينتُهم على إثر تعرّضها لعاصفة هوجاء وسط البحر .

 

تينوشتتلان مدينة الأحلام

 وبعد بنائه لمدينة فيراكروث المكسيكية أنشأ  كورتيس بها بلدية وعيّن نفسه أوّل مسؤول لها وذلك حسب التشريع الاسباني في ذلك الإبّان، و نظرا للمسافات البعيدة التى كانت تفصل المستعمرات الإسبانية الجديدة في القارة الامريكية عن إسبانيا، وتأخّر الإتصالات مع التاج الإسباني في شبه الجزيرة الإيبيرية ،وجد كورتيس نفسه مستقلاًّ بالحكم، منفردا، ومستأثرا بالسلطة في المكسيك، حيث لم يعد يمتثل حتى لتعاليم حاكم كوبا  (الأقرب جغرافياً من المكسيك بالنسبة لإسبانيا) دييغو فيلاسكيز. وبهدف الحصول على رضى وتعاطف العرش الإسباني بعث كورتيس إلى إسبانيا مركبا غاصّا بمختلف الثروات من ذهب وفضّة،ونوادر العالم الجديد إلخ.. وأمكنه بفضل هذه المناورة السياسية أن يجعل حكمه شرعيا يحظى برضى العرش الإسباني، ثم قرّر الذهاب حينئذ إلى مدينة تينوشتتلان عاصمة إمبراطورية الأزتيك التي بنيت فوق بحيرة كبرى والتي كانت من أكبر وأجمل حواضر المكسيك في ذلك الوقت، ومثلما أحرق طارق بن زياد – كما يُقال- مراكبَه عندما وصل الى عدوة الأندلس عام 711 م ، كذلك أحرق كورتيس (1519م) جميعَ مراكبه ( وقيل أغرقها) حتى لا يترك لأحد من جنده مجالاً للتفكير في الفرار، علما أنّ هناك من يشكّ في هذه الواقعة ،ويحسبها من نسج الخيال، وضرباً من ضروب الأساطيرالتى حيكت حول هذا الرّجل الغريب الأطوار والأدوار. وعلى إمتداد الطريق الممتدّة  بين مدينتي فيراكروث ومكسيكو أمكنه إخضاع العديد من القبائل والمداشر والحواضر الأزتيكية، التي إنضمّت الى جيشه وعزّزته وأصبحت حليفة له، وبعد أن وصل إلى عاصمة الأزتيك قام بخطف ملكهم الشهير موكتيزوما، وأمكنه بذلك أن يشلّ القيادة الأزتيكية، وسيطر على المدينة السّاحرة تينوشتتلان التي كانت تخترقها الجداول،والجدائل، والأنهار، والسّواقي والمياه، وتحيط بها الأشجار الباسقة ، والظلال الوارفة من كلّ جانب، وتملأ جنباتها الورود، والأزهار من كلّ نوع ولون ،والتي كانت تبدو للإسبان عندما دخلوها أوّل مرّة مثل المدن التي تتراءى للحالم في أحلامه.

 

وبعد سلسلة من المعارك، والمناورات إستطاع كورتيس السيطرة بصفة تامّة على هذه المدينة بتاريخ 13 من شهر أغسطس(آب) 1521. ثم أصبح بعد ذلك قائدا عامّا وحاكما مطلقا “لإسبانيا الجديدة” وهو الإسم الاستعماري الجديد الذي أطلق على المكسيك في ذلك الوقت. وبعد أن إتّهم بعدم حسن تدبيره لشؤون الحكم، بعث العاهل الإسباني كارلوس الأوّل موظفين ملكيين سامين لاسترجاع دفّة الحُكم التي كانت بحوزة كورتيس، ثم نُقل قسراً إلى إسبانيا. حاول كورتيس إسترجاع أمجاده العسكرية السابقة في العالم الجديد، وعلى الرغم من اللقب الشرفيّ  الذي أطلقه عليه العاهل الاسباني وهو “مركيز أواكساكا “ومشاركته في بعثة عسكرية إلى الجزائر،إلاّ أنه لم يتمكّن من إسترداد مكانته المرموقة كقائد فاتح ،ولم يحظ بعطف الملك عليه من جديد. إستقر كورتيس بعد ذلك في مكانٍ قريبٍ من مدينة إشبيلية وهو يجرّ أذيالَ الخيبة، والحسرة، وقد هدّه النّكد والوهَن، وأثقلته الهمومُ والأحزان.

 

كورتيس وسيرفانتيس

وقد ورد إسمُ إيرنان كورتيس في الفصل السابع من القسم الثاني من رائعة الكاتب الإسباني العالمي ” ميغيل دي سيرفانتيس” الأدبية المشهورة ( دون كيخوته دي لا مانشا ) (كما يُنطقُ عنوانها فى أصله فى اللغة الإسبانية) التي نشرت عام 1615حيث يقول: “..إنّه إيرنان كورتيس الذي حاصرالسّفن المناوئة ، وأحدث بها الثقوبَ والتجاويفَ والأعطابَ، وجعل المراكبَ الشراعية الإسبانية في مأمنٍ من الأهوالِ والأخطار،  وصيّرها مطواعةً، منساقةً لإمرته في العالم الجديد “.

 توفّي كورتيس عام1547 بإسبانيا ،ودفن في مدينة إشبيلية، ثم بعد بضع سنوات نُقل الى المكسيك ، بعد أن كان قد أوصى بأن يدفن فيها بعد مماته ، واحتُرمت وصيّته وتمّ تنفيذها  بالحرف، حيث دُفن بالفعل بصفةٍ نهائية في مدينة مكسيكو سيتي، ولهذا يقال عنه على سبيل الدّعابة والمزاح أنّه الرّجل غزا المكسيك فى حياته ومماته.. !. ونظراً لهيامه الشديد ببلد المايا والأزتيك ، وعشقه العميق لها، إليه تُنسب تلك الأغنية الرّومانسية، الحالمة، الحزينة، والمؤثّرة  الذائعة الصّيت التي ما فتئت تتغنّى، وتصدحُ بها إلى اليوم – على لسانه – العديدُ من فرق المارياتشي الموسيقية المكسيكية الشّهيرة ذات القبّعات المكسيكية العريقة والعريضة المُزركشة، والبدل الزاهية الجميلة ، والتي جاء فى بعض مقطوعاتها قوله :

 آه أيّها المكسيك الجميل..آه أيّها المكسيك الحبيب.. إذا مِتُّ بعيداً عنك، فليقولوا أنّني كنتً نائماً..ولينقلوني إليك..México Lindo y Querido si muero lejos de ti… Que digan que estoy dormido… y que me traigan aquí…!

***

  *كاتب ّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. شكرا أخي الدكتور الخطابي على موضوعاتك الشيقة التي أقرأها وأنا متيقن من أنني سأعود بفائدة.
    في موضوعك هذا سافرت بنا عبر التاريخ والجغرافيا ،وجعلتنا نعيش مع حضارات سادت ثم بادت ، وعرفنا أن الإسپان عندما وصلوا إلى المكسيك لم يجدوا – كما كانوا يزعمون – أرضا خلاء ،او بلدا بدون حضارة ، بل هم الذين قضوا على حضارة الأزتيك الزاهرة ، والتي كانت تضاهي حضارة الفراعنة في تطورها واهتماماتها .
    أما عن هرنان كورتيس Hernán Cortés فقد كان محظوظا – كما قلت – حيا وميتا ؛ فقد ترقى منذ شبابه في سلم الرتب العسكرية البحرية،وأسندت إليه مهام عظيمة،منها غزو المكسيك ،وتتواصل حظوظه ويشرق نجم سعده بأن وجد جنودا تائهين في البحر فعزز بهم قواته ،وكان محظوظا أكثر مع المكسيكيين ! فكما هو معلوم فإن لإمبراطورية الأزتيك جيشا ،ولا يعقل أن ينهزم جيشها الجرار بسهولة أمام بضع مئات من البحارة ،ولكن الحظ ساعد مرة أخرى هرنان كورتيس ؛ فقد كان للأزتيك أسطورة هي سبب انهزامهم ؛ كانوا يعبدون الشمس ،ويعتقدون أن للشمس أبناء بمرتبة الآلهة ،ومنهم الإله كتزلكتلQuetzalcoatel ،الذي كان يحارب أعداء أمه الشمس ،من كواكب ونجوم وظلام وليل ،لكنه انهزم وغادر المكسيك من جهة الغرب ( المحيط الهادئ) ،وأنه سيتعزز ببركة أمه وسيعود يوما من جهة المشرق ( المحيط الأطلسي) وسيملأ الدنيا عدلا ، وكان الأزتيكيون ينتظرون عودته ،فلما رست مراكب هرنان عند ساحلهم الشرقي ظنوا أن إلههم قد عاد ، والذي دعم لهم هذا المعتقد كون الغزاة الإسپان كانوا يرتدون ألبسة حربية من حديد ،ويمتطون مخلوقات غريبة ويحملون في أيديهم عصيا تنفث نارا ، إذ لم يسبق لهم أن شاهدوا إنسانا يرتدي الحديد ،ولا هذه الأفراس ،ولا الأسلحة النارية ،وهكذا استسلموا بدون مقاومة تقريبا ،معتقدين أنهم عاجزون عن محاربة أبناء الشمس.