جيهان الفغالي… الحبّ أوّلاً وأخيراً

Views: 694

 د. محمّد م. خطّابي (مدريد – اسبانيا)

نحن نرى روعة الأمور في بداياتها، ومع مرور الوقت، ندرك أنّ ما كنّا نظنّه جديرًا باهتمامنا، هو نفسه ما ننبذه اليوم، أو نكاد. أهي سُنّة الحياة، أم هي لعبة قدر؟ غريبٌ كيف تجرؤ أحلامنا على طلب المُحال، فنقترب من ذاك الفانوس السّحري، راجين منه أن ينعم علينا ببعض خيراته العطرة، أو أن نحصل يومًا على أسمىَ ما يتمنّى كلّ مرء، فيلبّي مبتغانا، ونهلّل فرحًا، إلى حين! أهي تعاويذ تتلاعب بقدراتنا العاطفيّة، تجعلنا نُهمل ما كان يومًا، قمّة فرحنا؟ أم انّ وعينا الجارف قد استفاق من سباته، وفطن إلى التغيّرات التي أحاطت به، وإلى براكينها الآتية، فآثرَ منعها! أخوفًا من غدٍ مشتعلٍ، راح يزيل رماد الأماني، كمن يمسح يديه بمنديلٍ دامٍ، ويغسلهما تاليًا ليعلن براءته؟ أنتَ بريء أيّها القدر !بريء من دم العشّاق الأوفياء!من دم رسائل حبٍّ تائهة !بريءٌ من دم الأطفال اليتامى!من دم المشرّدين، ومن آمال القلوب الخاشعة! هي لعبتك فانْهِهَا! نحن دومًا على استعداد لماردك الجبّار، فانهها!وإن أتيتَ ذات يومٍ بحثاً عن بقايا أفراحنا، فسنقدّمها إليك على طبقٍ من حبّ، لعلّك تعلن النهاية:الحبّ أوّلا وآخرًا!..

أهي سُنّة الحياة، أم هي لعبة قدر؟! هذا هو التساؤل الأساسي الذي يطرحه هذا المقال الرّائع للأديبة الرّقيقة الدكتورة جيهان الفغالي، فحين تتراءى لنا روعة الأمور في بداياتها، سرعان ما قد نكتشف، أو تنكشف لنا حقيقتها في آخر المطاف…؟ أوّل ما يطالعنا في هذا النصّ النابض هو العودة إلى أحلام الطفولة البريئة النائية في الزّمان والمكان،والحاضرة أبداً معنا خلال رحلة العُمر الطويلة، والتي ما إنفكّت آمالها، وتطلّعاتها تطلّ علينا من وراء سديم الماضي البعيد، هذه الأحلام ما برحت قاطنة،قابعةً، ساكنة فينا، وكامنة في أعماقنا، وجوارحنا، وكياننا، كيف تجرؤ أحلامنا البعيدة على طلب المحال ؟!..

كنّا نجد نجاتنا وبعض خلاصنا في مصابيحنا الغرائبية أو في فوانيسنا السّحرية الصّغيرة.. وطالما أن هذه الفوانيس هي التي كانت تستجيب لنا ولرغباتنا، فإنّ فرحتنا بها تدوم بدوام مفعول السّحر فينا، إنها تلبّي تطلّعاتنا، ولو إلى حين ونهلّل فرحًا ومرحاً بها، ونتمايل جذلاً وإنشراحاً لها، ولكنّ فرحتنا بها غير دائمة بل عابرة..خاطفة ! في هذا السياق يرسم هذا النصّ الشاعري المفعم باحاسيس الحياة نصبَ أعيننا تساؤلات حيرىَ ولكنها ملحّة، إنها تشاكسنا في نعومة ورقّة ودلال لتدغدغ عواطفَنا، وتوقظ حواسّنا، وتروي غليلنا، وتطفئ ظمأنا..

هل هي يا ترى تعاويذ تتلاعب بقدراتنا العاطفيّة، تجعلنا نُهمل ما كان يومًا، قمّةَ أفراحنا، ومسرّاتنا ؟ أم أنّ وعينا الجارف قد إستفاق من سُباته، وفطن إلى التغيّرات التي طرأت عليه، والسّبات بداية نوم طويل الأمد.. هل هو خوف عشقٍ من قَدَرٍ مُشْعل على شفة يمسح آثارَ رماد الأماني التي تذروها رياح الأيام ..؟! تسارع المبدعة إلى الإفصاح أنّ القدر بريء من دم العشاق، فكلّ نفس لا تتغيّر إلا بتغيّرها، إنه بريئ من الرّسائل التائهة، والأطفال اليتامى والمشرّدين التائهين، ومن القلوب الخاشعة القانتة التي تخشى، وتصل المعاناة مداها عندما تنبئنا الكاتبة أننا في العمق نسعى ونتوق ليس للأفراح التي كانت، وولّت، وإنقضت،ومضت لحال سبيلها بل لبقاياها، ممّا يزيد في فداحة الشّعور بالمأساة، وإذا تربّص بنا أو لنا القدر الجائر، ووقف بالمرصاد، وأدار لنا ظهر المُجن، فإننا نواجهه بالحبّ، نداوي علّتنا بالذي كان هو الدّاء..!

وها هي ذي بقايا أفراحنا، سنقدّمها إليه على طبقٍ من حبٍّ، وتيمٍ، وهيامٍ،وأُوامٍ وصبابةٍ، لعلّه في آخر المطاف يعلن النهاية..فالحبّ هو أوّل آهاتنا، و آخر زفراتنا.

أولاً وأخيراً.. تفصح لنا الكاتبة فى آخر المطاف أنّ بعض البّوح ليس هذراً مُسترسلاً، كما أنه ليس من باب إطلاق الكلام على عواهنه، بل هو لمحٌ عفويٌ، وصفحٌ تلقائيّ، بمثل هذا التداعي الجميل، والدّفق المتنامي ، والّلمحات التي تحفل بها هذه الكلمات المتعانقة، المتشابكة، الموفيّة، الحالمة، الهائمة، والعفيفة، والشّفيفة التي ترصد لعبة القدر في حياتنا والتي تشيع فينا وبيننا وفي حياتنا الأملَ الناجي.. هكذا يزيح هذا النصّ النابض الستائر عن أريج الشّوق، وتباريح الحنين الكامنة في أعماق النّفوس المكلومة، وهو بذلك يغبط القلوب المعنّاة، وينعش لأفئدة الحائرة الحزينة..

إنها ومضات إستبطانية جوّانية تبعث على الأمل، وتدعو للتأمّل، وإعمال الفكر والنظر، وتفسحُ أو تفتحُ البابَ على مصراعيها للخيال المجنّح الفسيح، وتطلق سراح أسر الكلمات لتحلّق حُرّةً طليقةً في الفضاء اللاّزوردي الفسيح، بضربٍ من المعاناة، والمكابدة، والنغوص. فإذا الحروف تتراءى أمامنا كأنها نوارس طائرة، وتساؤلات حائرة، ومعاني زاهرة، ومراتع ناضرة، وتنويعات وتريّة متوتّرة، وأنغام رخيمة، وهي وإن قصرت، تظلّ نبعاً رقراقاً، وقبساً متدفّقاً بين ثنايا نفسِ إنسانةٍ عفيفة، شفيفة، عاشقةٍ،متيّمة، والهةٍ، ساهرةٍ، ساهدةٍ، سامرةٍ، تائهةٍ بين أعطاف الصبّ، والصّبا، ، والتّيم، والتّيه، والجوىَ والصّبابة، هذه الأحاسيس المُرهفة، وهذه المشاعر المُترفة تقطن في هيادب السّمت البعيد، جارةً للثريّا والسّماك الأعزل.. وهكذا يغدو الحرف النقيّ الصفيّ البلّوري المخمليّ في آخر المطاف في هذا النصّ الجميل همساً ولمساً، وبزوغَ شمسٍ مشرقةٍ، وطلوعَ قمرٍ وضّاء .

***

(*) كاتب، وباحث،ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *