حدود المنطقة الاقتصادية البحرية اللبنانية وقضايا النفط والغاز

Views: 1262

د. شربل سكاف

1-الاكتشافات في الحوض الشرقي للمتوسط وتحضيرات الدولة اللبنانية

تعتبر الموارد الطبيعية عاملاً اساسياً في تأمين حسن سير الاقتصاد العالمي. وابتداءاً من العام 2004 يلعب الغاز الذي اصبح يعتبر اداة جيوستراتيجية أساسية دوراً هاماً على الصعيد العالمي. فهو الطاقة الاكثر استخداماً بعد النفط ويزداد الطلب عليه سنوياً بين 2.5% و 3%. ويستمر التنقيب عن الغاز لتلبية الاحتياجات العالمية خاصة مع تقدم طرق الاستكشاف العلمية الجديدة في البحار والمحيطات. في هذا الاطار تأتي اكتشافات شرقي المتوسط : ففي اسرائيل 10 حقول مكتشفة لتاريخه  بين العامين 2004- 2016 أهمها حقل  Leviathan، وفي قبرص بدأ الاستكشاف عام 2007، وتكلل باكتشاف حقل Aphrodite  في العام 2011. في مصر مجموعة اكتشافات اهمها حقل ظهر عام  ال2015  الذي يعتبر من اهم الاستكشافات التي قامت بها شركة  . ENIأما في سوريا فوقعت الحكومة السورية اتفاقاً مع SoyuzNeftgaz لبدء الاستكشاففي العام 2013 بدون اي خطوة عملية.

في السياسة الدولية المعاصرة، الموارد الطبيعية تعتبر عاملاً اساسياً في فهم طبيعة العلاقات الدولية. فبالنسبة لدول شرقي المتوسط فان الاكتشافات تحمل تحديات داخلية وخارجية مع تبعات على الصعد الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية. فالموارد الطبيعية باتت رديفاً للقوة، ومصدراً للنزاعات والحروب. Razmig Keucheyan يعتبر ان الموارد الطبيعية كانت دائماً ملازمة للنزاعات في اطار الحروب بين الدول أو الحروب الاهلية.  Michael Klareيرى ان بعد انتهاء الحرب الباردة اصبحت الحروب اقل ايدوليوجية واكثر ارتباطاً مع فكرة السيطرة على الموارد الطبيعية. Bertrand Badie  يقول ان الحروب الاممية (Guerre Interetatique) انتهت لصالح حروب السيطرة على الموارد أو السلطة.

Michael Klare

 

مع بدء الاستكشافات في الحوض الشرقي للمتوسط، باشرت الدولة اللبنانية العمل على خطين متوازيين: اطلاق الدراسات البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة ورسم الاطار المؤوسساتي لادارة الملف. فلقد قامت الشركة البريطانية Spectrum  والنروجية PGS ب 7دراسات للبحر اللبناني منذ العام 2000 حتى 2013 شملت 15252  Km2  دراسات زلزالية ثلاثية الابعاد (3D) و3200 كلم2 من المسوحات الزلزالية ثنائية الابعاد(2D)   من اصل اجمالي مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة البالغة 22,730  Km2. وافتتحت وزارة الطاقة Data Room  عام 2011 حيث وضعت الدراسات بمتناول الشركات العالمية الراغبة في الاستثمار في البحر اللبناني.وقد بلغت حصة الدولة اللبنانية من عائدات الدراسات اللبنانية حوالي 40 مليون دولار اميركي في حين تقدر مجمل البيوعات بحوالي 150 مليون دولار. (من دون الاخذ بعين الاعتبار الدراسات التي اجريت للبر اللبناني عامي 2013 و 2015).  وعند اطلاق دورة التراخيص الاولى عام 2013 تقدمت 52 شركة بطلبات تأهيل،  تأهل منها 46 من كبرى الشركات العالمية.

عمدت الدولة اللبنانية الى بلورة إطار تشريعي ومؤسساتي لملف الغاز منذ بداياته عام 2007 متضمناً مجموعة قوانين ومراسيم. ولقد استعانت منذ البدء بدولة النروج من خلال البرنامج الحكومي النروجي “النفط للتنمية” (Oil for Development) الذي يهدف الى مساعدة الدول النامية على استثمار مواردها الطبيعية.ولقد وقعت الاتفاقية لاول مرة عام 2006 و جددت 3 مرات لتاريخه. ونتج عنها المساعدة على صياغة مجموعة قوانين أهمها القانون 2010/132 “الموارد البترولية في المياه البحرية” الذي نتج عنه تأسسيس هيئة ادارة قطاع البترول التي لعبت دورا محورياً في التحضير لبدء عملية الاستكشاف التي انطلقت مؤخراً في 25 شباط 2020 (2017/57 “الاحكام الضرائبية المتعلقة بالانشطة البترولية” و 2018/84 “دعم الشفافية في قطاع البترول”)، المراسيم التطبيقية، اتفاقية الاستكشاف والانتاج(EPA)، تدريب اعضاء هيئة النفط وموظفي الوزارات المعنية، المساعدة على اعتماد مبادرة الشفافية الدولية في مجال الصناعات الاستخراجية في كانون الثاني2017 (ITIE) ، اشراك المجتمع المدني في الاشراف على حسن سير القطاع، مسودةقانون الصندوق السيادي ومشروع قانون التنقيب على النفط في البر.

Bertrand Badie

 

2-التحديات : اشكالية ترسيم الحدود + قدرة الدولة ومؤسساتها + سياستها الخارجية + الانقسام الداخلي وتشعباته الاقليمية

اشكالية ترسيم الحدود

طرحت الاستكشافات المستجدة في شرقي المتوسط اشكالية ترسيم الحدود اللبنانية مع كل من قبرص وسوريا واسرائيل. فبظل حالة العداء والحرب مع اسرائيل واستمرار الاشكالية الدائمة في صعوبة تحديد الحدود البرية والبحرية مع سوريا والانقسام الداخلي حول طبيعة العلاقة معها، عمدت الدولة الى توقيع اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة عام 2007 مع قبرص. صادق البرلمان القبرصي على الاتفاقية في حين لم يصادق البرلمان اللبناني عليها بالرغم من المراجعات القبرصية العديدة (الاتفاقية لم تحل الى المجلس النيابي ناهيك عن الضغوط التركية على لبنان لعدم التصديق). فبادرت قبرص الى توقيع اتفاقية في العام 2010 مع اسرائيل نتج عنها نزاع حدودي بحري بين الدولتين. تجدر الاشارة الى ان الدبلوماسية السورية وجهت عام 2011 رسالة الى الامم المتحدة عبر سفيرها بشار الحعفري تعترض فيها على الحدود اللبنانية البحرية المعلنة بموجب المرسوم 6433/2011.  تتحمل الدولة اللبنانية مسؤولية الاخطاء والتبعات التي نجمت عن اتفاقية قبرص: فمن جهة لم تكن الاتفاقية تقنياً لصالح لبنان كونها اعتمدت خط الوسط (Mediane)و ذكرت ان النقطة 1 هي النقطة الثلاثية المشتركة بين قبرص واسرائيل ولبنان في حين أنها النقطة 23  فاستندت اليها اسرائيل فيما بعد لتكون اساس المشكلة. وانتظر لبنان العام 2011 للاضاءة على الاخطاء المرتكبة بعد ندوة في جنيف من تنظيم ASDEAM) Association Suisse pour le dialogue Euro – Arabo – Musulman) لتكليف UKHOبدراسة حول الحدود البحرية لتكتشف الدولة اللبنانية بانه يحق لها بمساحة اضافية ابعد من النقطة 23. واعطت دراسة UKHO3 سيناريوهات يعطي الاول منها لبنان 1350 كلم2 أضافي (خط وسطي بدون اخذ جزيرة تخلت بعين الاعتبار)، و الثاني 500 كلم2 اضافي (خط وسطي مع اخذ ½ جزيرة تخلت بعين الاعتبار)، و الثالث 200 كلم2 اذا اعتمد الخط العامودي.فالاخطاء التي وقعت فيها الدولة اللبنانية ادت الى نزاع جديد مع اسرائيل وتوتير العلاقة مع قبرص، علماً انه في ظل الوضع القائم، تبرز صعوبة تطبيق القانون الدوليواعتماد طرق حل النزاعات الحدودية البحرية كون الدول المحيطة بلبنان لم توقع على اتفاقية Montego Bay التي تنظم وترعى كيفية حل النزاعات.

اتفاقية Montego Bay

 

قدرة الدولة ومؤسساتها على ممارسة السيادة من خلال ملف الغاز + الانقسام الداخلي

 يعتبر ملف الغاز أداة تمت من خلالها دراسة قدرة الدولة اللبنانية على ممارسة  سيادتها  بعد العام 2005، وذلك بعد ان اصبح لبنان من جديد لاعباً يتم التعاطي معه بشكل مباشر من قبل القوى الكبرى. وبين الغاز كذلك مدىقدرة مؤسسات الدولة اللبنانية على ممارسة سيادتها من خلال ادارة ملف شائك كالنفط، ومدى استعداد القوى السياسية لتجاوز الخلافات للسير قدماً في الملف، علماً ان الانقسامات والتوازنات الطائفية طبعت كل مراحل الملف (اعتماد القانون 132، مشروع مسودة الصندوق السيادي، هيئة ادارة قطاع البترول باعضائها الممثلين للطوائف الست المؤوسسة، اختيار البلوكات وما فجرته من صراع بين باسيل وبري…). فانعكاس الانقسام السياسي على التقدم في ملف الغاز لم يقتصر فقط على 8 و 14 اذار بل تعداه الى داخل الفريق الواحد (عون – بري)  الذي منذ العام 2005 كان له ارجحية واضحة في ادارة الملف بالنسبة الى باقي القوى السياسية (قوى 14 اذار كانت تعطي الاولوية للقضايا السيادية فضلاً عن الضغوط الامنية والاغتيالات التي طالتها). فالكباش السياسي والطائفي فرض مجموعة تسويات أدت الى اعادة اطلاق دورة التراخيص الاولى عام 2017 على أثر انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية وتسمية سعد الحريري رئيساً للوزراء بعد ان تم تأجيلها منذ العام 2013 على اثر استقالة الرئيس ميقاتي (تم اقرار مراسيم النفط 42 و 43 في الجلسة الحكومية الاولى برئاسة سعد الحريري بعد ان كانت تأجلت 6 مرات). فتعرقل الملف لاكثر من 3 سنوات دفع خلالها لبنان واقتصاده ثمن الانقسمات السياسية تأخيراً في بدء التنقيب عن الغاز. (شكلت لجنة وزارية في عهد حكومة تمام سلام وعقدت عشرات الاجتماعات بدون ان تفضي الى اعادة اطلاق دورة التراخيص، علماً ان الحكومة لم تكن متحمسة للتسريع في الملف)  وضعفت ثقة كبرى الشركات العالمية في قدرة الدولة اللبنانية على المضي قدماً في الملف. وبرزت العلاقة بين التسويات السياسية الكبرى وملف الغاز الذي اصبح جزءاً لا يتجزء منها بالاضافة الى الدور المحوري لوزراة الطاقة والمياه التي تحولت الى وزارة سيادية تحاور كبرى الشركات العالمية وتضطلع بدور أساسي في ادارة الملف، تتنازع على استلامها كبرى الطوائف والاحزاب. كذلك ظهر الدور المحوري للجيش اللبناني والادارات والمؤسسات المدنية في ادارة ملف الغاز والاستعدادات التي قامت بها، بالاضافة الى دور المجتمع المدني والجمعيات الاهلية والاعلام والجامعات في مواكبة الملف.

 

3- التحديات الاقليمية : الصراع في شرقي المتوسط بين تركيا ومصر (بوابة الطاقة) وبروز احلاف نفطية جديدة (5)

أما على الصعيد الاقليمي،فاسرائيل التي امنت الاكتفاء الذاتي، تسعى لتعزيز كسر عزلتها الاقليمية وتصدير غازها عبر خلق ديناميكية اقتصادية جديدة تمكنها من تكبير دائرة نفوذها وسيطرتها في المنطقة مطلقة مشروع انبوب للغاز (East Med)بالتعاون مع قبرص واليونان وبمساهمة من الاتحاد الاوروبي نحو القارة الاوروبية . أما مصر، فتعزز موقعها كمركز اساسي لتصدير الغاز بعد الاكتشافات الغازية في المتوسط وبناء معامل لتسييل الغاز بطاقة استعابية كبيرة تعتبر الوحيدة في المنطقة بعد فشل كل من اسرائيل وقبرص في بناء معامل مماثلة (المفاوضات حصلت بين  Noble Energy  و Woodside Petroleumلكنها لم تنجح). واطلقت مصر منتدى الغاز في شرق المتوسط الذي يضمها مع كل من فلسطين والاردن وقبرص واليونان وايطاليا واسرائيل والذي يجعل منها لاعباً اساسياً في المنطقة. اما تركيا، فتسعى لكسر الطوق عليها بعد وصول الرئيس السيسي الى سدة الحكم في مصر وفشل محادثات السلام لاعادة توحيد جزيرة قبرص، مستفيدة من وقوعها على تقاطع خطوط الغاز القادمة من الشرق من جهة بحر قزوين والشمال من جهة روسيا الى اوروبا ساعية لتعزيز دورها وتكبير دائرة نفوذها مع افضلية واضحة لمصر لكي تكون هي الحلقة التي من خلالها سيتم تصدير معظم غاز شرق المتوسط. كذلك ايران التي تملك احتياطات كبيرة من الغاز، فلقد اطلقت عدة مشاريع لانابيب الغاز وسعت الى تعزيز دورها ونفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في كل من العراق وسوريا ولبنان لكن هذه المشاريع تعثرت اثر العقوبات الاميركية المتجددة وسقوط الاتفاق النووي بعد وصول الرئيس الاميركي دونالد ترامب.

 

4- التحديات الدولية: وساطة فاعلة للولايات المتحدة، نفوذ تاريخي لاوروبا ودور متجدد لروسيا

أما الصعيد الدولي، أوجد الغاز الذي يعتبر عاملاً اساسياً لفهم العلاقات الدولية سبباً اضافياً لتدخل القوى الكبرى بصورة مباشرة مع امكانية ان يكون عامل سلام أو نزاعات. فالولايات المتحدة الاميركية تقوم منذ العام 2011 بوساطة فاعلة من اجل حل النزاع البحري بين لبنان واسرائيل مكثفة من مساعداتها العسكرية والاقتصادية للبنان، في حين ان روسيا عززت دورها ووجودها العسكري المباشر في شرق المتوسط مع بدء الحرب السورية عام 2011 فضمنت حصرية التنقيب عن الغاز السوري والمشاركة في التنقيب في البحر اللبناني عبر ائتلاف الشركات الذي تقوده شركة TOTALالفرنسية ويضم Eni  الايطالية و Novatekالروسية. أما الاتحاد الاوروبي الذي يجد في المنطقة امتداداً لنفوذ تاريخي متجدد، فحضوره الفاعل اقتصادياً وثقافياً ومشاركته العسكرية في اليونيفيل تمت ترجمته عبر المشاركة الفاعلة لكبرى شركاته النفطية في الاستكشاف والتنقيب في كل من لبنان وقبرص ومصر، مع العلم ان اولوية الاتحاد الاوروبي تبقى في تنويع مصادر الغاز الطبيعي للتخفيف من الاعتماد بشكل رئيسي على الغاز الروسي.

 

 5- الخلاصة (5)

ان الغاز ساهم في تجديد الدور الاقتصادي التاريخي لمنطقة شرقي المتوسط التي اصبحت مسرحاً للقضايا الكبرى وحلقة جيوبوليتيكية اساسية. واضاف طبقة جديدة من النزاعات الى القائمة أصلاً، وادى الى بروز محاور نفطية سياسية جديدة. كما انه ساهم في خلق ديناميكية دولية للتسابق نحو المنطقة، وادى الى ظهور لاعبون جدد كدولة النروج التي تعتبر قوة متوسطة صاعدة ومحايدة. واصبح الغاز قضية اقتصادية وسياسية محورية في السياسة اللبنانية، وتم تحويله الى اداة ووسيلة للنزاعات والحلول في ان معاً، ساهم في تزكية الصراعات الطائفية بدون أن يؤدي الى حرب أهلية. وعادت الدولة اللبنانية من خلال الغاز لاعباً يسعى لممارسة دوره وسيادته وان بشكل غير كامل مع الاشارة ان الغاز عزز موقع لبنان كدولة مستقلة يتطلع الجميع الى التعاون معها.

***

(*) القيت في الندوة حول:حدود المنطقة الاقتصادية البحرية اللبنانية وقضايا النفط والغاز،  شارك فيها: العميد الركن المتقاعد خليل الجميّل، الدكتور شربل سكاف،  إدارها: الدكتور عصام خليفة، ضمن المهرجان اللبناني للكتاب في الحركة الثقافية- انطلياس السبت 7-3-2020.

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *