عندما قُصِفَتْ المغرب بالغازات السامّة

Views: 402

د. إدريس لكريني*

تفيد العديد من الأبحاث والدراسات بأنّ إسبانيا، وأمام ضراوة المُقاوَمة وقوّتها في منطقة الريف في شمال المغرب خلال عشرينيّات القرن المُنصرم التي توِّجت بمعركة “أنوال” (1921)، استخدَمت سُبلاً خطيرة وغير مشروعة لحسْم المعركة، ولفرْض الاحتلال، من قبيل إحراق الزرع والضّرع وقصْف المدنيّين من أطفال وشيوخ ونساء، بل وصلَ الأمرُ إلى حدّ استعمال الغازات السامّة في مُواجهة السكّان ما بين سنتَيْ 1921 و1927. وهو ما أَرغم الزعيم محمّد بن عبد الكريم الخطابي على الاستسلام إلى السلطات الفرنسيّة يوم 28 أيّار/ مايو 1926، حقناً للدماء.

وتؤكّد الوثائق التاريخيّة أنّ منطقة الريف في المغرب، شهدت أوّل حرب كيماويّة جويّة، أضحت معها فضاءً لتجريبِ مُختلف أنواع الغازات المتطوّرة المحظورة والأكثر فتكاً بالإنسانيّة والبيئة والحياة بشكلٍ عامّ، ومسرحاً لإحدى أكبر الإبادات البشريّة التي شهدها التاريخ، بعدما تمّ استعمال هذه الغازات بشكلٍ عشوائي في قصف التجمّعات السكّانيّة والأسواق، من دون التمييز بين الأطفال أو النساء والعجزة أو المُقاومين.. ومن ارتفاعات جدّ منخفضة لإحداثِ قدرٍ كبيرٍ من الأضرار والخسائر.

وقد ظلّ ملفّ استعمال هذه الغازات في شمال المغرب مُغلقاً ومجهولاً لأكثر من سبعة عقود، بفعل التعتيم الإسباني وتواطؤ بعض الدول الاستعماريّة، على الرّغم من تداعياته الخطيرة الآنيّة واللّاحقة على الإنسان والحيوان والبيئة في المنطقة. غير أنّه وبعد هذا الصمت والتكتُّم الطويلَيْن، وإلى حدود بداية التسعينيّات من القرن المنصرم، بدأت خيوط الجريمة في الانكشاف بفضل كتابات عددٍ من المؤرّخين والباحثين الغربيّين والمغاربة والإسبان، وبفعل جهود بعض فعاليّات المُجتمع المدني في شمال المغرب وفي إسبانيا.

ففي العام 1990، ظَهَرَ كتاب: “ألمانيا، إسبانيا وحرب الغازات السامّة في المغرب الإسباني 1922 – 1927” للصحفيَّين الألمانيَّين “رودبيرت كونز وولف دييترمولر”، الذي تُرجم إلى اللّغة العربيّة سنة 1996. وفيه كَشَفَ المؤلِّفان مجموعة من المعطيات والمعلومات الجديدة حول حقيقة استعمال هذه الغازات في شمال المغرب، بناءً على تحرّيات موضوعيّة ودقيقة، سمحتْ بطرحِ القضيّة بصورةٍ مُخالِفة لطروحات المؤرِّخين الرسميّين في إسبانيا. فكان للأمر الفضل في إخراج هذا الملفّ من دهاليز السريّة إلى العَلَن، حيث ظهرتْ بعد ذلك الكثير من الكُتب والدراسات والأبحاث الأكاديميّة في إسبانيا حول هذا الموضوع، على يد عددٍ من المؤرّخين والباحثين الإسبان أمثال: “خوان باندو” و”ماريا روزا دي مادارياغا” و”كارلوس لازارو” و”أنخيل فيناس”، و”جون مارك دي لوناي”، و”روفير مورنو”..، التي اعتمدت في مقارباتها على الأرشيف التاريخي الإسباني، وحاولت في مُجملها طرْحَ الموضوع بشكلٍ إنساني وبجرأة أكاديميّة وموضوعيّة، بعيداً من أيِّ خلفيّاتٍ واعتباراتٍ سياسيّةٍ أو إديولوجيّة..

سباستيان بالفور والعناق القاتل

ويُعَدّ د.”سباستيان بالفور” أستاذ الدراسات الإسبانيّة المُعاصرة في مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسيّة في لندن، من ضمن أهمّ الباحثين الذين قاربوا هذا الموضوع بقدرٍ من الدقّة والتفصيل. فبعد أربع سنوات من البحث والدراسة المعمّقة والجولات الميدانيّة التي قام بها في شمال المغرب، أَصدر كتابه المُعنون: “العناق القاتل”، الذي توصَّل من خلاله إلى أنّ استعمال الغازات السامّة في شمال المغرب كان الثالث من نوعه في التاريخ الإنساني بعد الحرب العالميّة الأولى (1914 – 1918) وبعد قيام بريطانيا باستعمالها ضدّ العراق عام 1919، كما أشار إلى أنّ الطائرات الإسبانيّة كانت تستهدف بقصفها التجمّعاتِ السكّانيّة في الأحياء والأسواق خلال الأعياد والمناسبات لإلحاق أكبر ضررٍ بالناس، وقد لاحظ أيضاً أنّ نسبة انتشار مرض السرطان في المنطقة مُقلقة، وتظلّ مرشَّحة للارتفاع، ما لم يتمّ اتّخاذ التدابير اللّازمة في هذا الشأن.

كما برزت في هذا السياق أيضاً، مجموعة من الكتابات المغربيّة، سواء في صورة مقالات ودراسات، أنجزها مؤرّخون وباحثون من جامعاتٍ مغربيّة مُختلفة، أو في شكلِ لقاءات وندوات، وهو ما سَمَحَ بتسليط الضوء على قضيّةٍ ظلَّت مَنسيَّة ومُهمَلة، وبطرْحِ مجموعة من الإثباتات والبراهين التي تؤكِّد وقوعَ هذه الجريمة. غير أنّ الحقائق التي كشفتْ عنها هذه الدراسات والأبحاث تظلّ جزئيّة، لأنّ السلطات الإسبانيّة والألمانيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة لم تُفرِج بعد عن الوثائق التاريخيّة من الأرشيف الاستعماري، الذي يُحتمل أن يحمل أسراراً وتفاصيل أخرى أكثر خطورة.

في السياق نفسه، بَرزت في المغرب منذ أواخر التسعينيّات من القرن المُنصرم، مجموعةٌ من هيئات المُجتمع المدني التي أثارت الموضوع، وحاوَلت كشفَ خيوطه من خلال تنظيم مُلتقيات وإجراء أبحاث ودراسات، كما هو الشأن بالنسبة إلى “جمعيّة ضحايا الغازات السامّة في الريف” (1999)، “جمعيّة ذاكرة الريف” (2005)، “منتدى حقوق الإنسان لشمال المغرب” (2006)، “مجموعة البحث في الحرب الكيماويّة ضدّ الريف” (2004)، فيما أُثير الموضوع لأوّل مرّة داخل البرلمان المغربي في العام 2006 وتمّ التنبيه إلى وجود نَوعٍ خاصّ من السرطان في الشمال المغربي، بسبب استعمال قوّات الاحتلال الإسباني الغازات السامّة خلال سنوات الاحتلال.

وعلاوة على حضورها الرمزي ضمن التظاهُرات التي نظَّمها المُجتمع المدني الإسباني لأجل إغلاق المركب الكيماوي والعسكري “لامارانيوسا la maraniosa” في ضواحي مدريد الذي كان ينتج غاز الخردل، باشَرت مجموعةُ البحث في الحرب الكيماويّة ضدّ الريف اتّصالاتها مع عددٍ من النّخب الإسبانيّة لحثّهم على إيصال صوت ضحايا هذه الغازات إلى الرأي العامّ الإسباني، وقد أثمرت هذه الجهود وصول القضيّة إلى داخل البرلمان الإسباني، وذلك بمُبادرة الفريق النيابي لحزب اليسار الجمهوري الكاتالاني.

واجَهتِ السلطاتُ الإسبانيّة هذه الجهود كلّها التي استهدفت تسليط الضوء على القضيّة بالتجاهُل، كما أنّها لم تتجاوب مع مُختلف النداءات التي قادها ناشطون من المُجتمع المدني في المغرب أو فعاليّات أكاديميّة وحقوقيّة مغربيّة وإسبانيّة ودوليّة، والداعية إلى تقديم اعتذارٍ للسكّان وتعويضهم عن الأضرار التي لحقتهم من خلال إنشاء مراكز استشفائيّة مختصّة بالسرطان، وبخاصّة أنّ هناك سوابق دوليّة في هذا الخصوص، حيث سبقَ للحكومة الإيطاليّة أن قدَّمت اعتذاراً للشعب الإثيوبي سنة 1996 عن استعمالها الغازات السامّة في البلاد سنة 1935.

كما أنّ الإعلام الإسباني من جانبه، لم يتحمَّل مسؤوليّته في تنوير الرأي العامّ بهذه القضيّة، على الرّغم من هذه التطوّرات، ما يُبرز حجْمَ التواطؤ الحاصل في هذا الشأن مع التوجُّهات الرسميّة للدولة بصدد القضيّة. ويبدو أنّ الاختلاف والصراع السياسي الذي يطبع العلاقة بين الحزبَيْن الرئيسيَّيْن في إسبانيا (الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي) حول مختلف القضايا الخارجيّة والداخليّة للبلاد، لم يَطَلْ هذه الجريمة، حيث اتَّفقا معاً على الصمت والتعتيم واللّامبالاة بصددها.

إنّ عدم اعتراف إسبانيا بجريمتها في هذا الشأن، والتمادي في تجاهلها للمُعاناة الصحيّة والبيئيّة للسكّان، وإن كان يَجِدُ تفسيرَه في التخوُّف من تبعات الإقرار بالمسؤوليّة، فهو يعكس الحرْصَ أيضاً على عدم إحراج مُختلف القوى الاستعماريّة الأخرى، ودفْع عددٍ من الدول إلى المُطالَبة بتعويضاتٍ عن سنوات الاستعمار.

ما وَقَعَ في شمال المغرب من تدميرٍ وقتلٍ عمديّ نتيجة العدوان الإسباني بالغازات السامّة على السكّان في إطار الحملة الاستعماريّة التي استهدفتِ البلاد في سنوات العشرينيّات من القرن الماضي، هو جريمة حرب بكلّ المقاييس الماديّة والقانونيّة.

وانسجاماً مع مضامين اتّفاقيّات لاهاي لسنة 1899 و1907 وجنيف لسنة 1925 التي تُحرِّم بشكلٍ صارِمٍ وقاطِعٍ استعمالَ الغازات الخانقة أو السامّة أو المُشابهة خلال الحروب، تظلّ المسؤوليّة الدوليّة لإسبانيا قائمة بصدد هذه الجرائم التي يُفترض ألّا تَخضع للتقادُم، وبخاصّة مع استمرار تداعياتها الوخيمة على بيئة المنطقة وصحّة سكّانها تبعاً لما أَورده عددٌ من الدراسات والأبحاث.

ويعتقد الكثير من الفاعلين المدنيّين والباحثين أنّ الأمرَ يقتضي إقرارَ إسبانيا بمسؤوليّاتها في هذا الشأن، وتحمُّل تبعاتها، وكشْفَ الحقيقة كاملةً حول طبيعة هذه الأسلحة وتركيبتها، في أُفق تمويل أبحاث ودراسات طبيّة وعلميّة من أجل الوقوف على تداعياتها الصحيّة، وسُبل تطويق تأثيراتها المُختلفة.

إنّ التجاهُل الإسباني لهذه القضيّة يُفقد التجربة “الديمقراطيّة” لهذا البلد بريقها، ويكشف حجم الاستهتار بحقوق الإنسان في هذا الشأن. ويعتقد عددٌ من المُهتمّين أنّ الأمرَ يفرض تكثيفَ الجهود للتعريف بهذه القضيّة، والمُرافَعة بشأنها عبر الآليّات الدبلوماسيّة والأكاديميّة والطبيّة والسياسيّة والحقوقيّة والإنسانيّة المُختلفة، وبخاصّة أنّ هناك عدداً كبيراً من المُتعاطفين مع الموضوع داخل إسبانيا.

***

*مدير مختبر الدراسات الدستوريّة وتحليل الأزمات والسياسات – المغرب

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *