إيلي فرزلي… فرادة العباقرة

Views: 79

مارون أبو شقرا

“أجمل التاريخ كان غدا”- مذكّرات نائب رئيس مجلس النواب اللبناني المحامي إيلي فرزلي.

انتهيت البارحة من قراءة الكتاب – السيرة، الواقع في ٨١٥ صفحة من القطع الكبير – صادر عن دار سائر المشرق.

سيفاجئ الكتابُ كثيرين، فقد عرف اللبنانيون مؤلِّفَه سياسيًّا ونائبًا ووزيرًا ومشرّعًا ومحاميًا ومثقّفًا ومحلّلًا واستراتيجيًّا، ولم يعرفوه كاتبًا محترفًا ومفكّرًا ومؤرّخًا وعالمًا موسوعيًّا دقيق المعرفة وعميق الأبحاث ، ورؤيويّاً موغلًا في السبر والتطلّع والتأمّل والاستنباط .

الكتاب متعة حقيقيّة ، تُمسك به فيمسك بك، تأسرك رواية الأحداث، وصياغة الأفكار ، واستيلاد النظريات، وإبداع الخلفيّات وابتكار الخلاصات ، والإحاطة الثقافية والتاريخية بمجمل المواقف والسلوكيات. 

هو ليس سيرةً ذاتيةً فقط، تُكتب بانتقائية عالية، على ما درج عليه السياسيون، هو مرجع تاريخي فكري معرفي استراتيجي ، وشهادة على حقبة مهمّة من تاريخ لبنان يقدّمها أحد أبرز الفاعلين الأساسيين فيها .

 

ترك لديّ المؤلَّف بعض انطباعات أذكرها بإيجاز:

أ- كتاب موضوعيّ ، لعلّ السمة هذه تظهر بوضوح من خلال تحدّث الكاتب – صاحب الدولة عن شخصيّات بعضها ما زال لاعبًا على مسرح السياسة في لبنان، فوصفها بأمانة كما رآها وخبرها وعايشها واكتشفها، دون محاباة أو تجنٍّ، فلم يتطرّف لغاية، ولم يدع قلمه يسارع في هواه، فما شتم خصمًا ولا راعى حليفًا وما استفاض في ذمّ ولا أغدق في مديح ، حيث رأى زلّةً أشار، وحيث صادف فضيلةً دلّ .

ب- دقّة في سرد الأحداث والأحاديث والوقائع على ما أكّدته ذاكرة بعض العارفين الذين عايشوا بعضها، دون اختلاق أو تشويه أو تزوير أو اجتزاء.

ج- رؤيا منطقيّة واضحة، تبرز في المواقف الصادرة في الفصل الأخير ، لا سيّما قراءته للعلاقة مع روسيا أو لفهمه لموقع سوريا ودورها في الإقليم ، ونظرة العالم لهذا الدور .

د- كثافة الهوامش والشروحات التي جعلت من الكتاب موسوعة تلخّص نبذات عن أعلام وأماكن وصروح وبلدان .

ه- تسلسل منطقي رياضي في تقديم الأفكار والحجج والبراهين اعتادها المفكّرون والاستراتيجيون والفلاسفة، وسرد لأسرار وقُطَبٍ متعلّقة بعمليات الكرّ والفرّ والمناورات والألاعيب التي يجيدها محترفو السياسة ، فيكتشف القارئ فرادة هذا الرجل الذي قلّما خبرت الحياة السياسية اللبنانية شخصيةً تتمتّع برؤيا المفكّر ومهارة السياسي، مخيّلة الرؤيوي وواقعية الپراغماتي .

و- يبرز الكاتبُ أديبًا وشاعرًا غير مصطنِع ، إن من خلال أسلوبٍ ماتعٍ عميق ، أو من خلال بعض محطّات قدّم في خلالها دفوعًا أو مواقف سياسية بواسطة قصيدة أو خطاب عالي الحياكة، وأذكر بالمناسبة أنني قرأتُ مؤخّرًا مقدّمة صاغها لديوان شعر ( أتحفّظ عن ذكر عنوانه) لا أبالغ إذا قلت وبكلّ راحة ضمير أن في تلك المقدّمة شعرًا لم أجده في دواوين شعر .

ز- شهر دولة الرئيس سيفًا بوجه بعض صفحات من تاريخه هو ، فلم يرحم ذاته حيث أرّخ ، ولم تسلم نفسه من نقد حبره، فما برّر ولا اختلق لأناه أعذارًا ، وانطلاقًا من هذا الأمر ربّما،  تجاهل بعض أحداث وقعت، كحادثة سرقة سيارته في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وحكاية إرجاعها إليه، أو كبعض حالات الاعتقال التي طالت مقرّبين منه بغاية الضغط عليه في الفترة الزمنية عينها .

ح- كما في الطبّ  والفلسفة والشعر والموسيقى والرسم والنحت والرياضيات والفيزياء وسائر الفنون والعلوم كذلك في القيادة والسياسة ، قلّة هم عباقرة ، لهذا وبكل قناعة أرى أن سيرة المؤلِّف السياسية ومواهبه الخطابية والكتابية والعملية وقدراته التحليلية وإمكانياته الثقافية الرؤيوية الفكرية المتجلّية في تاريخه وسلوكه وحياته أوّلًا وفي كتابه هذا  ثانيًا، تجعلني أزداد اقتناعًا أن الرجل عبقرية سياسية قلّ نظيرها في بلادنا .

ط- على هامش تعليقي هذا ، أتوقف عند رواية أدهشتني في الكتاب، وهي أن العمّ شكيب (أبو بشارة) تتلمذ موسيقيًّا على يد الفنان الكبير زكي مراد والد ليلى ومنير مراد ، وتمنّيت لو أن صاحب الدولة أشار إلى شغف أعمامه النائب أديب والدكتور حسيب وجدّه لأمّه خليل دويليبي بالموسيقى وعشقهم لهذا الفنّ …

“أجمل التاريخ كان غدا” ، كتاب فيه من التاريخ والأدب والشعر والفكر والثقافة والدروس والخلاصات ما يرفع الروح ويغني العقل ويساهم في تجاوز هذا المستنقع وتقديم رؤى قد تصلح لتكون خارطة طريق من شأنها أخذنا نحو واقع أفضل وصوب صبح يبعد عنّا هذا الظلام. 

(Diazepam)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *