مجاهل الكورونا والمطهر الأرضي

Views: 526

العميد الركن أنطون مراد

خدمت في الجيش اللبناني حوالي خمسة وثلاثين سنة، مرّت علينا أوقاتٍ صعبة كنت مع زملائي نعيش خلالها مع الخطر اليومي. 

خاطرت بنفسي يومها لأن العدو كان معروفًا وكانت طرق الحماية معروفة، ولأني كنت مقتنعًا أنني أدافع عن أهلي ووطني، وكنت أعتبر أن قرار المخاطرة هو قرارٌ شخصي لأن نتائجه السلبية أتحمّلها شخصيًا. وكونها تنعكس على عائلتي الصغيرة، كان يريحني حصولي على دعمها المطلق انطلاقًا من محبتها للوطن، مع ما كان يكلّفها هذا الدعم من قلق وخوف وانتظارٌ ثقيل في أيام الحرب القاسية.    

أما اليوم في زمن الكورونا فإن الرعب مضاعف، لا خوفًا على نفسي بل خوفًا على عائلتي وعلى أبناء وطني. التزمت المنزل تطبيقًا لتوصيات الحكومة اللبنانية المستندة على توصيات منظمة الصحة العالمية والخبرات المحلية والدولية. اتفقت مع عائلتي أن أكون الوحيد الذي يخرج من المنزل على أن يكون هذا الخروج بالحد الأدنى الممكن لتأمين الحاجيات الضرورية للعائلة. 

كل مرّة كنت أخرج من المنزل كنت أشعر أن عليّ أن أودّع عائلتي وكأني لن أعود. وعند العودة كنت أشعر أن عليّ أن أعتذر من عائلتي من خوفي أن أكون قد جلبت لها الوباء الخطير. 

وأنا في الشارع أتطلّع إلى كل مواطن وكأنه مصدر خطر يجب الابتعاد عنه وطبعًا هو يتصرّف بنفس الطريقة، فالمصافحة ممنوعة والمسافة يجب أن تبقى فوق المتر والنصف. 

وعند العودة محمّلاً بأكياس الحاجيات، أقف على باب المنزل، أخلع حذائي وأبدأ مع زوجتي مرحلة التطهير التي تشمل كل الأغراض دون استثناء ثم انتقل لتطهير نفسي، حيث كنت أشعر بأن ثيابي ملوّثة فأرميها فورًا للغسيل، وأضع نفسي تحت المياه الساخنة لوقتٍ طويل لإزالة الفيروس الذي كنت أشعر وكأنه يختبئ في جسمي.

حياة خوف وهلع لم يسبق أن عشت مثلها طوال حياتي، أتابع يوميًا تطورات الوضع في لبنان والعالم، ويكبر قلبي بكل إنسانٍ مناضلٍ يخاطر بحياته لمواجهة مرض الكورونا وإبعاده عن شعبه ووطنه. هنا لا بد من توجيه تحية شكرٍ وإكبار لكل الجنود المجهولين المنتشرين على الخط الأول في جبهة المواجهة. عنيت بذلك الجسم الطبي والإداري المعني مباشرةً بمعالجة الكورونا وطبعًا من ضمنهم عناصر الصليب الأحمر المعنيّين بنقل مرضى الكورونا إلى المستشفيات. دون أن ننسى شكر كل العاملين في المستشفيات كافة والعاملين في جميع الإدارات الذين تفرض عليهم وظائفهم الحضور اليومي في وقتٍ نجلس نحن في منازلنا مع كل وسائل الراحة، ومع ذلك نتأفّف ونشتكي من الحصر والضجر.

هذا النمط من الحياة جعلني أفكّر وأقارن بين تصرّفاتنا فترة الكورونا وتصرّفاتنا في حياتنا العادية. اعتبرت كل خروج من المنزل بمثابة ولادة إنسان في هذه الحياة، وكل مشوارٍ خارج المنزل هو شبيه بمشوار الحياة، والفيروس هو بمثابة الخطيئة التي يسعى البعض لعدم الوقوع فيها تمامًا كالذي يسعى لعدم التقاط الفيروس بالتقيّد بجميع التوجيهات، وكذلك الخطيئة التي يركض إليها البعض الآخر لضعفه أمام مغريات الحياة تمامًا مثل الذين يتابعون ممارسة هواياتهم وملذاتهم دون الأخذ بالاعتبار خطورة ما يقومون به عليهم وعلى مجتمعهم.

أما العاملون في مجال مكافحة الفيروس فاعتبرهم بمثابة الملائكة والمبشّرين بكلمة الرب والمنبّهين لخطر الخطيئة، في حين أن مستغلّي الكورونا من التجار الذين أطلقوا العنان لجشعهم وطمعهم، ومن السياسيين الذين لم يخرجهم هذا الفيروس من أحقادهم وفسادهم، ومن المتصدّرين الشاشات لبثّ الخوف والرعب في النفوس، وغيرهم من المستثمرين في وجع الناس فهؤلاء أعتبرهم بمثابة شياطين الأرض الذين يساهمون في هلاك البشر. 

أما الوقوف أمام باب المنزل للتطهير فتخايلت فيه الوقوف أمام المطهر الربّاني ساعة يدعونا الله، وتخايلت كم يتعذّب المثقلون بالخطايا تمامًا كما نتعذّب بقدر الأكياس التي نحملها معنا ونطهّرها قبل الدخول إلى المنزل. ولكن الفارق الوحيد والمهم هو أننا هنا نملك قرار التطهير والدخول إلى منازلنا، أما التطهير والدخول إلى بيت الرب فهو قرار الرب لوحده ولا نملك التدخّل أبدًا بهذا القرار. جلّ ما يمكننا فعله هو أن نتقيّد تمامًا بوصايا الله خلال رحلتنا في هذه الحياة كي نصل إلى المطهر ومعنا أقل ما يمكن من أكياس الخطايا.

الوقاية من الكورونا واجبٌ أخلاقي ووطني وليس خيارًا شخصيًا. علينا ألاّ نحوّل منازلنا إلى سجون موحشة بل علينا الابتكار والمساهمة في دعم عائلاتنا ومجتمعنا واستغلال كل دقيقة من الوقت لممارسة العمل الإيجابي والابتعاد عن السلبيات.

أخيرًا، أتوقف عند كلامٍ أحببته يقول: كي نعرف معنى الحياة، علينا أن نزور ثلاثة أماكن: مستشفى، سجن ومقبرة. المستشفى لنعرف أن لا شيء أجمل من الصحة، السجن لنعرف أن لاشيء أجمل من الحرية والمقبرة لنعرف أن الحياة لا تستحقّ شيئًا والأرض التي ندوسها اليوم قد تكون سقفنا غدًا. 

لذلك، على كل واحدٍ منا الحذر في الحياة تمامًا كالحذر الحالي من الكورونا، وأن نتذكّر المطهر السماوي كل مرة نقف فيها في المطهر الأرضي أمام باب منزلنا لتطهير أغراضنا لنتمكّن من الدخول إلى المنزل.

 

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *