خواطرُ في رسالةٍ إلى أمّي

Views: 333

د. جورج شبلي

إنّ للجنّةِ باباً حدودُه ضحكتُكِ، ومفتاحُه قلبُكِ حيث تزحفُ المحبةُ الى المحبّة.

لم أَخشَ على بَصَري من نَسخِ خزائنِكِ، فجُرِّعتُ من فيضِ جداولِكِ ليشبَّ في سلسالِ حياتي وجودٌ جَرَت فيه أسبابُ الغلَّة، لأنّكِ عرفتِ كيف تلتقطين الشمسَ لتوزِّعي سحرَها على أَميالي.

إنّ قوةَ شَغَفي بكِ الذي أَضرَمتِه في نَبضي، تُقَصِّرُ إذا سُئِلتُ عن تحديدِ عُلُوِّ مَحلِّكِ وتعجزُ عجزاً مُبيناً.

إنّ توصيفَ فواضِلِكِ، مهما كان سخيّاً، لا يقدرُ على أن يدلَّ على خَواصِ صفائِكِ التي تبلغُ أجزاءَ روحي.

إنّ محبّتَكِ مُناغاةٌ هي أَندى على قلبي من مُغازلةِ الورد، والمحبةُ مع صاحب الحسّ المُرهَف روحٌ صرف.

أنتِ المتسربلة برقّةِ الحسّ ودقّة الذَّوق، وبكَمِّ المحبة التي أنتِ الأَنفَسُ في صُوَرِها.

إنّ نقاءَ الحياةِ يَتَذكّركِ في أيامِ طَوافِه على نفسِه، فالعلاقةُ بينكما أَنزهُ من لُطَخِ النّسيان. 

يا أمّي،

أنتِ دُنيايَ المعشوقة السّكنى، إليكِ تُنسَبُ جوانبي المُضيئة، فلطالما كنتِ نَقشاً على خاتمِ إلهامي، ومودَّةً سكنَتْ صدرَ مقاطعي، وعطراً منثوراً فوقَ ثورةِ أوتاري. تأكَّدي من أنَّ أحسنَ كلامي سَفَكتُهُ على مذبحِكِ.

لقد شكَّلتِ البدايةَ في زرعِ حبِّ الوطنِ والناس فيَّ، فكُنتِ المثلَ الأعلى المتحرِّرَ من قيود الأزمنةِ والمطارح، والذي تقفُ عندَه مساحةُ حياتي، مثلَ فرحةِ العاشِق بالمعشوق، أو مَزجِ المهجةِ بالمهجة.

أنتِ الأَغمَرُ داراً لشيادةِ مقامات برّاقة في ذاتي… إنّها صورتُكِ فيَّ، موقَّعةً بأناشيدِ مواكبِ الحياة بما فيها من تجاربَ وحالاتٍ استَقرَّت في جُبلتي مادةً خاماً، لأنكِ لم تَرمي إلّا صائِبة.

انتِ الأَلطفُ صُنعاً والأرقُّ نَسجاً، فالعطفُ دينُكِ، والمحبةُ ميزانُكِ، والحنانُ مَرَقَتُكِ المستطابة. لم تُتقِني تصريفَ الأفعالِ لتَفتِني العيون، لكنّ حضورَكِ المحبَّب  في ما كنتِ تحملينَه الى سُفرةِ الناس من صفائِكِ، كان يمتِّعُ القلب والعقل. 

لقد عشتِ تموّجاتٍ تخاوت مع جبلةِ غيرِك، لكنّكِ كنتِ مقتنعةً بأنّ المبادرة واجبة قبلَ الغصَّة، فعاركتِ أسبابَها وأهواءَها وما تداعَيتِ لأنّ حبلَ المواجهةِ والرّجاءِ معكِ مثلوثٌ لا ينقطعُ سريعاً.

لقد ضَخَّيتِ فيَّ محبةً أمَّنت موصولَ حضوري في وجودٍ يتوثَّبُ فيه فيضُ الحياة لتتحوَّلَ نُسختُها فيَّ قباباً من نور.

يا أمّي،

لو كرَّرتُ فيكِ كلماتِ التقديس والحبّ والتقدير، والتي تتحاسدُ في التَّسابقِ الى وجداني، وتتغلغلُ في مسالكِ أنفاسي، لعجزَت عن رشِّ ماء الوردِ على جَوى اشتياقي إليكِ. إنَّ كأسَ الفراقِ هو أَمَرُّ من الصَّبرِ عليه.

ولو قيلَ لي: إرجعْ الى حيث تنتمي، بدونِ أمِّك، لَما بقيَ معي شيء.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *