الإنسان في مقابل السوبرمان في رواية “شاي أسود”

Views: 793

وفيق غريزي

 

 على الفنان، روائيا كان ام شاعرا ام رساما، أن يعمل وسيطا بين عالمين، عالم مليء بتجاربه، وآخر حافل بأحلامه، وهو تبعا لذلك سيكون وسيطا ذا موهبتين: احداهما تعينه على الاختيار والانتقاء، والأخرى تمكنه من الخلق والابداع، ولا ترتبط حقيقة الفن بالواقع الخارجي. فالفن يبدع واقعه الخاص. “إن الرقي الدائم للجمال في إطار هذا الواقع يستمد من حقيقة وكمال الجمال نفسه” كما يقول د.ه. فيشر.

 ولا بد لكل عمل روائي من نقطة انطلاق يبدأ منها. وعلى هذا الاساس، اختار الروائي ربيع جابر الوطواط في روايته ”شاي أسود” نقطة البداية التي تحدد حاضر بطله وتضع بقية الأحداث على خط الزمن من ماض وحاضر، وبعدها يستطرد النص الروائي في اتجاه واحد، غير أنه بقي يتأرجح في الزمن بين الحاضر المتوتر/القلق والماضي المأسوي القائم.

سرابية الزمن والذاكرة

إن الروائي ربيع جابر يحاول عبر روايته ”شاي أسود” تحطيم ديمومة الزمن، رابطة الوجود التي تفوق الوصف، تحطيم النظام، نظام الرعب أو الاحتمالية، النظام أنه اغتيال مقصود. ولكنه في النهاية يستعيد هذه الديمومة مرة أخرى، لأنه يدرك استحالة صياغة نفي الزمن بلا فن ايجابي، بلا نظام آخر يجب عليه تحطيمه. وهذا الزمن الممتد من ماضي بطل الرواية “حسام” إلى حاضره، يتمثل في تداعيات الذاكرة التي تنهال على وعيه من مخازنها، والوقوف بوجه هذه التداعيات، يزعم (حسام) أن “الذاكرة خدعة، مجرّد خيال.. وعندما اتذكر كل هذا لا اقدر أن أؤمن أن هذا العالم موجود حقيقة”، فبين الذكرى والحاضر المعيوش يصاب بالدوار، حيث تتماهى الحقائق داخل عقله القلق “إن العالم يدور حوله كأنه على حلبة احصنة داخل مدينة ملاه”.

إن رواية “شاي أسود” مشحونة بالسوداوية التي يسبغها عليها واقع البطل، في ماضيه وحاضره، حتى بات “حسام” يقف وجها لوجه أمام العالم، العالم بحركيته وفوضويته قبالة عبثية حسام ولا مبالاته الوجودية، حتى أن يختصر مأساة العصر في معاناة ذاته. ولهذا يصرخ بصمت الجريح: “أنا بطل هندي، أنا ريس الميلودراما”، يفكر حسام، اين تراجيديا الاغريق مني، واين هملت القزم، واين ماكبث. فمن خلال هذا الجو النفسي الخاص الذي تسوده مشاعر الغربة والعزلة والوحشة، والحاجة إلى الآخر (الأنثى)، والشعور بالضياع والشك بكل شيء والتفكك النفسي، تبدو حالاته اليومية المتناقضة المتوترة.

 

عبثية الحياة

في كل صفحة من صفحات الرواية ثمة اشارات كثيرة إلى عبثية الحياة والموت، وإلى عبثية الأحلام والطموحات والعالم، ونجد فيها ذلك التداخل بين أحلام اليقظة والوهم الذي يغرق في وحوله حسام إلى أن قرر أن يتبنى النظرية الكوميدية القائلة بكون العالم وهما، أو في احسن الاحوال مناما، وبالتالي، فإن “كل كلام عن الشعور والمشاعر هو حكما كذب وخداع”.

إن بطل رواية “شاي أسود” إنسان لا منتم، إنسان يتنكر لماضيه لا يؤمن بالمستقبل. وفي مثل هذه الحالة المرضية، إذا توقف الإنسان عن الايمإن بالحاضر فإن الماضي لا بد ان يتوقف عن كونه ماضيه باكمله، وإنما يصبح ماضي حضارة ميتة. والموت الذي يمثل في ذاكرة بطل الرواية موت الام – موت الصديق علاء – الرجل تحت الجسر – الطفلة المقطوعة الاطراف، هذا الموت الذي يرهق الذاكرة، ليس موتا جسديا فقط، بل هو موت المعاني والدلالات الإنسانية والرموز والمثل: “فغياب العدل وحضور الظلم نوع من الموت ايضا لقيمة العدالة الكبيرة، وغياب الحرية وحضور القمع في المجتمع الاستبدادي نوع من الموت لقيمة الحرية الكبيرة وغياب الجمال والنظام والصدق وحضور القبح والفوضى والكذب نوع من الموت للقيم الجمالية والاخلاقية والإنسإنية”.

إن هذه العبثية انعكست سلبا على علاقة بطل الرواية حسام بالآخرين، حتى بات يرى أن هذه العلاقة بلا جدوى، وفي هذا السياق انقطعت أواصر علاقته بالمرأة التي احبها، وثمة حب في الرواية نجده يطمح للتحقق، علاقة إنسانية تحلم بالوجود، لكنها تخفق في الوصول إلى اهدافها لاسباب نفسية واجتماعية، الأمر الذي دفع “سهى” الحبيبة إلى الفرار وإنقاذ نفسها من رباط كي لا تقع فيه، قالت سهى لحبيبها حسام: “إنت ما فيك تغرق بعيوني، لأن راسك خشب، والخشب ما بيغرق”.

 صراع الخير والشر

في الحياة، كما في الذات الإنسانية، هناك قوتان تتصارعإن منذ الازل، هما الخير والشر، “الدكتور جيكل والمستر هايد” حسب التحليل النفسي، وقد جسد هذا التناقض “حسام” في شخصيته، وتجلّت هذه الحقيقة في ازدواج شخصيته، وتماهيها في شخصية “علاء”، حتى بات الاثنان يشكلان وجهين لذات إنسإنية واحدة: الأولى تمثل الشر والثانية تمثل الخير فعلا، وكل واحد منهما مرآة للاخر، علاء النجاسة وحسام الطهارة.. لأنه كما يزعم لم يدنّس روحه. فهذا الإنسان المحبط المتشائم، يكره الإنسان المتفوق “السوبرمإن النيتشوي” (نسبة إلى الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه)، ويعشق الوطواط الإنسان الذي يعيش في جحور الظلمات النائية، وفي الاماكن الخربة، وحين يبلغ ذروة اليأس واللاجدوى من الحياة ينشد العودة إلى حيث ولد فيقول: “امي تعالي وخذيني إلى زمن الطفولة المفقود، لا تتركيني وحدي في هذا العالم المهجور الا من الموتى”.

إن رواية ربيع جابر “شاي أسود” هي رمز لإنسان هذا العصر المادي، حيث عجلة المادة والعبثية، والحروب، تمر فوقه، وتخلّفه حطاما، أو محاصرا بالهواجس والرعب واللاأمل…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *