الموارنة والكورونا

Views: 54

يوسف طراد

إلى الذين امتزجوا مع حفافي الجبال وقصب الوديان، وجُبلوا بعشق الروح والنضال الأبدي، إلى الذين ترجموا لنا الصحّة الجسدية والروحية بالفعل والقول والتضحية والعمل، إلى الموارنة الأوائل كلّ الحبّ والاحترام.

كانت حضارتهم حقيقةً تؤدّي إلى دروب السماء، لا تعرف حدًّا للانطفاء، من شمسٍ أضاءت الوديان المقدّسة وفجرٍ قبَّل السنابل الذهبية، إلى أقانيم الإيمان والمحبّة والسلام.

في العالم الذي تعلو فيه يد القوّة الغاشمة على المبادىء والتقاليد الجميلة، تتلمّس البشرية طريقها إلى السلام الصحيّ، فلا تجد سوى دروب الهلع من عدوٍ غير منظورٍ. إنها الأوبئة علامات الأزمنة، لجأ الموارنة بعد اضطهادٍ وأفول زمانهم الأول إلى جبال لبنان عملًا بالوصية القائلة: (فليهرب إلى الجبال من كان في اليهودية مت 42/17) تعرّضوا للتنكيل والتعذيب والاجتياح وهدم قراهم في موطنهم الجديد وزمنهم الثاني، لم يخافوا ممن يقتل الجسد، فكان بطاركتهم يتقدّمون للذبح والحرق طوعًا ليكونوا قربان فداءٍ عن شعبهم.

السلام الصحيّ الذي أنشدوه لم يكن سلبيًا بالرغم من انعدام وسائل الوقاية، فالعمل بالأرض أعطى مناعةً مضاعفة. كانت العادات والتقاليد التي مارسوها تحدّ من المرض والخطيئة على السواء، فاللمس بين الجنسين عن قصدٍ كان خطيئةٌ بمفهوم العامّة وكان يدعى (خطيئة اللمس) فقد مرّت نادرةٌ جميلة في إحدى كنائس القرى الجبيلة منتصف القرن العشرين، عندما كان المؤمنون خارجين من القدّاس الإلهيّ يوم الأحد، وبسبب الزحمة عند الباب لمس فلّاحٌ ذو نكتة إحدى العجائز عن طريق الخطأ، فأجفلت وصاحت بصوتٍ ملؤه الخشوع: (يا رب لا تحسبها عليِّ خطية) فأجابها الفلّاح على الفور: (لا تخافي ما بدّكر عا الهوا متل البلح) من هذه الأخلاقية الموحية بالعفة لم تنتشر الأمراض وخاصة الأمراض المنتقلة جنسيًا كالهربس والسفلس والتعقيبة التي اجتاحت المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطى.

حتى النكتة والضحك والغناء لم تكن محبّبة، ما يزال كلام عجوزٍ أخرى موشومًا في ذاكرة من سمعها وهي طفلةٌ: (الرقص نقص والغناني من خسوفية العقل) هذا القول ليس وليد صدفةٍ، فالوقت الذي سيذهب هباءً بالضحك والغناء، يمكن أن يستفاد منه في العمل بالأرض. كانت التراتيل الجميلة لا تسمح للأغاني بالانتشار إلًا نادرًا في حفلاتٍ زجليةٍ قبل اختراع المذياع، صدى هذه التراتيل ما يزال يتردّد في الوديان، فمِنْ على التلال المتقابلة كان زيّاح العذراء يصدح من حناجر الفلّاحين و(المشحرجيي) كأنه كرّات الشحارير والحجال.

هذا لا يعني أنهم كانوا يمقتون الضحك والغناء ويمنعونهما، فتراثنا الموروث من القرن العشرين مبنيٌّ على حفلات الأعراس وطحن الكشك والزجل والميجانا والعتابا وغيرها من الفنون التراثية. خلافًا لذلك يحضرنا فيلم (اسم الوردة) من بطولة الممثّل العالمي شون كونري وإخراج جان جاك أنود، عندما كان الرهبان يتسمّمون من القراءة في كتاب الضحك، فقد طُبع هذا الكتاب بالحبر المُشبع بسمّ السيانوز، ولقد كان الضحك في مجتمع الرهبان في أوروبا محرّمًا نوعًا ما، أمّا عندنا فكان محبّبًا بحدودٍ دنيا لا تسمح بإدمانه كي يبقى الشباب بعيدًا عن إدماناتٍ تجلب اللذّة للجسد والهلاك للروح.

أخبرنا كبارنا الذين رحلوا أنه في ثلاثينات القرن المنصرم، حصد التهاب الرئتين كثيرًا من البشر في وقتٍ كان (البنيسلين) نادرًا، فمن استطاع الحصول عليه، فقد تمّ له ذلك ببذل الكثير من المشقّة، وهي مشقَّة النقل، فقد كان يُنقل من صيدلية المدينة ضمن الثلج على مركوبٍ مع ممرّضة لإعطائه بواسطة الحقن. هل كان ذلك المرض هو الكورونا؟ لا أحد يعلم بغياب التقنيات الطبّية المتطورة آنذاك. تغلّب الموارنة على هذه الآفة بالصلاة ورباط الزواج المقدّس لإعادة تجديد النسل.

نشأ شعبنا على إيمانٍ حقيقي، ناضل في الماضي من أجل توفير مقومات الصمود والحياة، هل سيدخل الإيمان مجددًا إلى قلوبنا مستهزئًا بالكورونا التي إن أماتت جسد المؤمن لا تميت روحه؟ أم سنقول مع الأديبة الرائعة ماري قصيفي (الموارنة مرّوا من هنا)؟

(السبت ٢١ آذار ٢٠٢٠)

***

(*) موقع MON LIBAN

(https://rentalsfloridakeys.com/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *