تحوُّل الحضور الإنسانيّ في زمن الكورونا

Views: 623

أ.د. مشير باسيل عون

أجبر الكورونا الناس على التلاقي من على الشاشات الإلكترونيّة، فتغيّرت أنماطُ التواصل الإنسانيّ، وتبدّلت طرُقُ التفاعل، وارتسمت سبُلٌ جديدة من التعبير. قبل الجائحة الكورونيّة كان يطيب للناس أن يهربوا من واقعهم الفيزيائيّ، الجسديّ، الحسّيّ، ليسكنوا إلى العالم الافتراضيّ ويسكنوا فيه. كان التواصل الافتراضيّ قرارًا حرًّا، فأصبح هو سبيل التلاقي الوحيد الممكن في خضمّ هذه الأزمة الكونيّة. حين ثقُلت الكثافةُ الحضوريّة، وتكثّفت وتضخّمت في ازدحام المعاشرة الجمهوريّة اليوميّة، أصاب الناس بعضٌ من التخمة، فأصبحوا يتوقون إلى شيءٍ من التخفّف والتحرّر والتنزّه. فإذا بالتلاقي البُعديّ الإلكترونيّ يمنحهم فسحةً من الحرّيّة في تدبّر كيفيّات حضورهم من وراء الشاشة التواصليّة.

 

أمّا اليوم، فالعزلة الاجتماعيّة القاهرة تَضطرّ الناسَ إلى مساءلة مثل هذا المسلك التواصليّ. ذلك بأنّ التخفّف من أثقال الحضور أوشك أن يُلغي الحضور كلّه، في حين أنّ الناس هم في أمسّ الحاجة إلى استشعار نبض الحياة في محضر النظير والشريك والمخاطَب والقريب والصديق والخليل والحبيب. يحضرني هنا فكرُ الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسِّرل (1859-1938) الذي أتانا بتحفتَين من تحَف تأمّلاته. التحفة الأولى تتناول مسألة الردّ أو الاستصفاء. فالوجود الإنسانيّ، على تنوّع ظواهره، لا يمكننا بلوغه في حقيقته القصوى إلّا حين يرتدّ إلى جواهره الأصليّة التأسيسيّة. إذا المرء أراد أن يبلغ معنى هذه الظاهرة الحياتيّة أو تلك، كان عليه أن يسوقها بوعيه إلى مقاصدها الأصليّة، فيحرّرها من الرداءات والألبسة والأقنعة التي تحجبها، ومن الأحكام التعسّفيّة التي تُطبِق عليها، حتّى يتبيّن له معناها الأصفى والأنقى.

أمّا التحفة الثانية، فهي تنوُّعُ الحضور على مقام المقصد الإنسانيّ. فالظاهرة الإنسانيّة يتنوّع اعتلانُها أمام الإنسان بتنوّع الإقبال عليها. فالمنزل المنتصب على الهضبة يمكنه أن يسلك إلى وعيي الذاتيّ سواءٌ عن طريق المعاينة العلميّة التي تجعلني أحصي عناصره البنائيّة والهندسيّة، أو عن طريق التأمّل الوجدانيّ الذي يجعلني أستجلي فيه معاني الطمأنينة والسلام والدفء العيليّ، أو عن طريق التذكّر الحنينيّ الذي يجعلني أعود به إلى منزل أجدادي، أو عن طريق الاستشراف المستقبليّ الذي يجعلني أتطلّع إلى مشروعي السكنيّ الخاصّ. في جميع هذه الأفعال القصْديّة والتناولات التنويعيّة، تتضاعف حمولة البيت المعنويّة، وتَخصِبُ مؤونتُه الدلاليّة، فتكتنز فيه أبعادٌ ومنظوراتٌ ورؤًى تتجاوز مجرّد انتصاب البيت على الهضبة.

 

في عزلة الكورونا، تساعدنا التحفةُ الأولى (مفهوم الردّ) في استصفاء جوهر الحياة الذي ينبغي أن نستمسك به، من بعد أن نعرّي مظاهر الوجود من أقنعتها المزيّفة. اليقين أنّ معنى الحياة الإنسانيّة هو العطاء لأنّه هو الأقرب إلى جوهر الحياة، وقد تجلّت في أصلها وهبًا دفّاقًا. والحال أنّ عصر العولمة الذي أفرز لنا فيروس الكورونا أضحى زمن الأخذ. فالناس انقلبوا سجناء الشركات الاقتصاديّة العالميّة التي تبني خطّتها على افتعال الأخذ، لا على تعزيز العطاء. من جرّاء استفحال الداء الاستهلاكيّ، صار الإنسان موضعَ أخذ في جميع حقول وجوده. فتضاءلت رقعة العطاء الحرّ، الطليق، المجّانيّ، الجذلان. العولمة الإنسانيّة الحضاريّة التي تقول بها شرعة حقوق الإنسان توشك أن تسقط سقوطًا مدويًّا في ساحة المواجهة العنيفة مع عولمة الأخذ الاستهلاكيّ الفتّاك. فالإنسان يؤخذ بالإعلام إلى حيث لا يريد، ويؤخذ منه ما لا يشاء أن يعطيه، ويؤخذ عنه ما لا يروم أن ينطق به. أجل، توشك هذه العولمة الأخْذيّة أن تقضي على الإنسان، على نحو ما عرفناه في زمن العطاء التضامنيّ. وما فيروس الكورونا سوى حلقة من حلقات الأخذ الممنهج الذي يحوّل الحضورَ الإنسانيّ إلى حلبةٍ للتنافس على تسويق إغراءات الاستشفاء في مختبرات صناعة الدواء الناجع. يولد الإنسانُ اليوم مأخوذًا على الرغم من مشيئته. لذلك غدا مقام المأخوذيّة منافسًا شرسًا لمقام الإنسان المعطاء.

 

أمّا التحفة الثانية (مفهوم التنويع)، فتساعدنا في تجاوز مأزق التلاقي الإلكترونيّ حتّى يستطيع بعضُنا أن يُقبل على بعضنا الآخر في وجوه شتّى وعلى كيفيّات مختلفة. صحيحٌ أنّ رؤية الوجه البشريّ مكبَّلًا بسلاسل الرسم الإلكترونيّ تحرمنا من استنشاق عطر الحضور، ومعاينة التموّجات المنبعثة منه، والتقاط الذبذبات الحيّة المتناثرة من حوله. وصحيحٌ أنّ اقتصار التلاقي الإلكترونيّ على الفعل الفرديّ، حين يتنفّس الإنسان وحده، ويتحرّك وحده، ويأكل ويلعب ويرقص ويحتفل ويصنع وينام وحده،إنّما يحرم الحضور من نعمة التشارك الفعليّ في تدبّر مجرى الأحداث الذاتيّة الشخصيّة الوجوديّة، ومجرى الأحداث الأخرى الخارجيّة. إلّا أنّ التواصل الإلكترونيّ لا يحرمنا من قدرة الإبداع في تنويع الحضور. بالتنويع نستطيع أن نخفّف من حدّة التواصل البُعديّ حتّى نجعله يدنو من فضائل الحضور القُربيّ. يكفينا أن نَعِد وعدًا صادقًا بتغيير مسلكنا في المقبل من الأيّام، حين تنفرج الأوضاع وتعبر الغيمة السوداء. يقتضي ذلك من كلّ واحد منّا أن يتوب توبةً صادقة إلى معنى الحياة في جودها الأصليّ وانوهابها المجّانيّ. لنا حينئذٍ أن نَعِد ذواتنا والآخرين بتنويعٍ فريد مبتكر جذّاب في اختبار المحضر الإنسانيّ على غير ما تعوَّدناه وألِفناه، وتجبّرنا به وتكلّسنا وتحجّرنا. لنا أن نعِد بتنويعٍ فذٍّ في إدراك معاني الألفة الطيّبة، والعشرة البنّاءة، والمخالّة الخالصة. لنا أن نَعِد بالانعتاق من الصورة النمطيّة الواحدة التي نحبس فيها الآخرين، حتّى يتهيّأ لنا أن نستجلي فيهم عن جدارة صفاتٍ جديدة نسبغها عليهم، فيتجلّون بها لنا في بهاءات مشعّة. لنا أن نعِد بتنويعٍ جريء في قراراتنا الوجوديّة، والتزاماتنا الإنسانيّة، واندراجاتنا اليوميّة حتّى نُخرجها من رتابتها الخانقة، ونُخضعها لأنوار الاكتناز الإدراكيّ الأعمق والاستغناء الثقافيّ الأرحب. لا حرج، من ثمّ، أن ينقلب مثلُ هذا الحضور الإلكترونيّ العابر حضورًا وعْديًّا مستندًا إلى طاقات القرار المدفونة في أعمق أعماق الذات الإنسانيّة. غير أنّ كثافة الأصالة التي تغمر الحضورَ الوعْديّ هذا تعوّضه من ضآلة واقعه خيراتٍ من العزم الأمضى. فالعازمون على تغيير واقعهم لا يحرجهم أن يشيّدوا صرح وجودهم المقبل على وعْديّة بُعديّة ألجأتنا إليها ضروراتُ الحفاظ على الجنس البشريّ في زمن الوباء الكونيّ.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *