ما معنى الكورونا؟

Views: 1425

أ.د. مشير باسيل عون

 يتناول الناسُ في جميع المجتمعات والثقافات جائحة الكورونا تناولًا يستند إلى علومهم ومعارفهم وتصوّراتهم واختباراتهم. فيُسبغون عليها من المعاني ما يغترفونه من مُختمر خلاصاتهم العلميّة والفكريّة.

من الواضح أنّ هناك سبُلًا أربعة تهيّئ الإنسان للمجازفة بتخيّر المعنى الأنسب وإطلاقه واعتماده، عنيتُ بها سبيل العلوم الطبيعيّة أو الوضعيّة، وسبيل العلوم الإنسانيّة، وسبيل الأدب والفنون، وسبيل اللاهوت والفلسفة. العلوم الطبيعيّة تحلّل الظاهرة وتُشرّحها، وتقف على جميع عناصرها وعواملها وتحوّلاتها وآثارها وعلاجاتها. نتائج هذه الأبحاث العلميّة واجبةٌ ملزمةٌ للعقل السليم. العلوم الإنسانيّة تتحرّى تحرّيًا دقيقًا عن تجلّيات الحياة الإنسانيّة في انفعالات النفس (علوم النفس)، وتفاعلات الاجتماع (علوم الاجتماع)، والآثار الذهنيّة البنيويّة الفرديّة والجماعيّة (علوم الأنتروبولوجيا)، والانعكاسات الاقتصاديّة (علوم الاقتصاد)، والسياسيّة (علوم السياسة)، والبيئيّة (علوم البيئة)، وما إلى ذلك. خلاصات هذه التناولات الإنسانيّة تُنير الوعي المستقيم، وتمنح الإنسان القدرة على تصوّر الوجود وتأوُّله ورعايته، وذلك على الرغم من التباين الشرعيّ بين الخلفيّات والمناهج والأساليب. الآداب والفنون، وهي حقلٌ متمرّدٌ من العلوم الإنسانيّة، تُنشد الواقع إنشادَ الترنّم المطرب،وترسمه رسمًا مزخرفًا تستطلع فيه أبعادًا دفينة لم تألفها الذائقة. فتوحاتُ هذه التلمّسات تُغني الوجدان الإنسانيّ من غير أن تُلجئه إلى تصديقها ومبايعتها على الإطلاق.

 

أعتقد أنّ اللاهوت (الخطاب الدينيّ) والفلسفة (الحكمة العقليّة)، وهما عِلمان يتربّعان في أصل العلوم كلّها من غير أن يحظيا بحقل معرفيّ واضح المعالم كالحقول الأخرى التي تنشط فيها سائرُ العلوم، يستطيعان أن يبتدعا المعنى الأشمل والأرحب والأعمق في الوجود الإنسانيّ برمّته. وقد قيل إنّ الدَّين طربُ الحبّ، فيما الفلسفة تأمّلُ الفكر (سلامة موسى). يبني اللاهوتُ معنى الوجود على خلفيّة التسليم بحقائق الإيمان، مراعيًا في فطنته الدهريّة ما أفرجت عنه قرائحُ الناس على تعاقب الأجيال، فيما الفلسفة تسائل الوجود مساءلةً مبنيّةً على مجموع النتائج العلميّة، والخلاصات الإنسانيّة، والتلمّسات الوجدانيّة المعتلنة في السبُل الثلاثة. صعوبة النظر الفلسفيّ مقترنةٌ، والحال هذه، بإمكان التبحّر في جميع اختبارات الناس وجميع مداركهم وجميع معارفهم.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّ ما يقوله الناسُ في جائحة الكورونا يختلف من سبيل إلى سبيل. مشكلة المعنى أنّ الناس يستخرجونه من غير أن يميّزوا في وعيهم التأثيرات التي أتتهم عن طريق العلوم الوضعيّة والعلوم الإنسانيّة والآداب والفنون واللاهوت والفلسفة. فالإنسان هو ثمرةُ التفاعل الناشط بين جميع هذه المكتسبات. حين ينظر الناس في الكورونا، يخرجون بتصوّر هو أشبه بخليط من جميع ما استقرّ في قاع وعيهم، على التباس خطير وتشوّش مربك. الثابت أنّ الإنسان لا يجوز له أن يبحث عن معنى هذه الظاهرة لا في العلوم الوضعيّة، ولا في العلوم الإنسانيّة، لأنّ هذين السبيلين لا يملكان جدارة مثل هذا القول، ولا هما يدّعيان القدرة على استخراج المعنى فيقضيّة الوجود الإنسانيّ. يبقى سبيل الآداب والفنون، وسبيل اللاهوت، وسبيل الفلسفة. يعنيني السبيلُ الأخير في هذا التفكّر. حين يتحدّث الناس عن الكورونا، يلجأون إلى سبيلٍ من هذه السبُل. من بديهيّات السبيل الفلسفيّ القولُإنّ الواقع المادّيّ والواقع التاريخيّ والواقع الإنسانيّ ليس فيه معنى موضوعيّ لصيق به، ينبغي لجميع البشر أن يعتمدوه حقيقةً مطلقة في جميع الأحوال والقرائن.

يذكّرنا الفيلسوف الألمانيّ فريدريخ نيتشِه (1844-1900) أنّ الوقائع لا وجود لها بمعزل عن التأويلات التي يسوقها الإنسان لها. فالأمور مرهونةٌ بمن يَنظر إليها وفيها، أي هي مقترنةٌ بالمنظار (الوسيلة أو السبيل)، وبالمنظور (الرؤية أوالبُعد)، وبالنظريّة (العمارة الفكريّة المبنيّة). لذلك شاع أنّ نيتشه يناصر المنظوريّة في كلّ شيء حتّى أضحى الواقعُ وجهة نظر. فالحرب التي ما عاينها أحدٌ قطّ، فما تحدّث عنها مؤرِّخٌ، وما استجلاها محلِّلٌ، وما ذكرها راوٍ، وما وثّقها باحثٌ، لن تحدث إلّا في حيّز الافتراض المحض. ذلك بأنّ الحادثة بخبرها، والفَعْلة بتناولها، والقصّة بسردها، والوجود بتعبيره؛ وإلّا انعدمت جميعُ هذه الوقائع. كلّما احتشدت التفسيرات وتكثّفت وتعاظمت وتنوّعت، اكتنزت الواقعةُ واغتنت وتضخّمت واستوت حقيقةً كونيّةً ناجزة. الإهمال التفسيريّ المطلق يوازي سقوط الأشياء في العدم.

 

أعود إلى الكورونا لأسأل عن مصدر التفسيرات التي يخرّجها الناسُ على وجوه متضاربة. قبل النظر في معنى هذه الظاهرة، يختلف الناس في قضايا علميّة محض لا تتّصل بالرؤى والمعاني والقيم. أسوق مثالَين على الاختلاف التأويليّ هذا. يختلف العلماء أوّلًا في مسألة الاختيار بين منعة القطيع أو الحجر الصحّيّ الشامل، ويختلفون ثانيًا في مسألة نجوع دواء الملاريا (الكلوروكين ومشتقّاته) في القضاء على فيروس الكورونا. إذا كان الاختلاف التأويليّ مشروعًا في مسائل العلم، فحريٌّ بنا أن نقبل به مُشتدًّا متفاقمًا حادًّا في حقول الاستدلال الحرّ على معاني الظاهرة. منهم من يعاين في الكورونا إخفاقًا للعقل وسقوطًا للعلم، ومنهم من يستطلع بها آثار البليّة البيئيّة الكونيّة، ومنهم يستدلّ بها على انهيار المنعة البيولوجيّة في الكائن الإنسانيّ، ومنهم من يتأوّلها قصاصًا إلهيًّا ينذر بقيام الساعة وأزوف يوم الدين. والحال أنّ هذه التفسيرات وغيرها تعبّر عن أحوال أصحابها واقتناعاتهم وتصوّراتهم. ومن ثمّ، فإنّ الانتقال من التحليل العلميّ (السبيل الأوّل) إلى الاستنتاج الغيبيّ (السبيل اللاهوتيّ)، مرورًا بالاستجلاء العينيّ (العلوم الإنسانيّة) والمكاشفة الوجدانيّة (الآداب والفنون)، يجب أن تضبطه سلطةُ العقل الذي ينير التفكّر الفلسفيّ (السبيل الأخير). وحدها الفلسفة ترعى معنى الوجود في خفر المساءلة، وحيطة الباحث، وفطنة الناظر، وحكمة المستبصر، وحياد الملتزم. ذلك بأنّ الفلسفة راعية العلوم كلّها ورقيبها الساهر الفظن، ترفض الخضوع لسلطان المعارف اليقينيّة المتصلّبة، وتهوى الأعماق القصيّة والآفاق الرحبة حيث الإلمام بالمشهد الأشمل يضعها في مسؤوليّة صون حدود الوجود الإنسانيّ القصوى. الفلسفة ناسكةُ التخوم، جليسةُ المشارف، وسيطةُ النفائس.

لا شكّ في أنّ الكورونا اختلالٌ عضويٌّ يصيب الكائنات الحيّة، الحيوانيّة منها والإنسانيّة. غير أنّه اختلالٌ ينبثق من منطق التفاعلات الناشطة في صميم الحياة التي منها أتى الجنسُ البشريّ. ذلك بأنّ الحياة موبوءةٌ في أصل تكوُّنها، تستوطنها مئاتُ مليارات الفيروسات الحيّة التي تفعل بها صحّةً واعتلالًا. الحياة هي الفيروس الأعظم، وما الفيروسات المشتقّة منها سوى دلائل المنعة أو الضعف في مسرى الكائنات الفرديّة. كان الناس يموتون في العصور القديمة بسببٍ من الجهل المفروض عليهم. أمّا اليوم، فالناس يموتون من جرّاء الجهل الذي يفرضونه على أنفسهم، وهم في ذروة التملّك العلميّ التقنيّ. من علامات هذا الجهل أنّهم، على الرغم من اقتدارهم التقنيّ، يُهملون علوم الحياة، وعلوم النضج، وعلوم الاستصلاح الكيانيّ، ويركنون إلى علوم الموت، وعلوم المنفعة، وعلوم الاستئثار الأنانيّ، وعلوم الغلبة، وعلوم الاستفساد الكونيّ.

وعليه، فإنّ التفسيرات التي يختلف الناس في نسبها إلى الكورونا ينبغي أن تدفعهم إلى التروّي لأنّ هذه الظاهرة ستنقضي كغيرها من الظاهرات. أمّا الصدمة التي ستخلّفها، فيجب أن توقظ فينا حسَّ النقد الذاتيّ حتّى نُنقذ ذواتنا من غربة المادّة، ووحشة الصحراء، ونذير الهلاك. ليس الكورونا نهاية العالم، ولا انهيار النظام الأرضيّ، ولا إعلان مجيء المخلّص، بل عطلٌ أخلاقيّ أصاب صميم الفهم الإنسانيّ. فإمّا أن ينهض الناسُ من غفلتهم، فيستخدمون علومهم من أجل استصلاح الكائن البشريّ في جميع أبعاده الجسديّة والنفسيّة والروحيّة، وإمّا أن تمرّ هذه الجائحة مرورًا مبتذلًا، ويعود الناسُ إلى المعاناة في القريب من الأيّام.

 

لا معنى للكورونا إلّا ذلك الذي يجعله مِهمازًا أخلاقيًّا يستحثّنا على التحرّر من ذهنيّات الخوف والجشع والاستماتة التي تحوّل فينا الرجاء مطيّةً للاستزادة الأنانيّة المستقبحة. مثل هذه الذهنيّات أمست ضاربةً في عمق أعماق النظام الاقتصاديّ الكونيّ. وما من فَكاك منها إلّا بصحوة أخلاقيّة إنسانيّة شاملة تستصفي الضروريّ من الحاجات المادّيّة، وتعزّز المغني من المفاتحات الإنسانيّة التي تتيح للناس أن يحيوا في رعاية راقية رقيقة لإنسانيّتهم التائقة إلى المودّة والتعاطف والتضامن والتقابس. فالناس سيموتون عاجلًا أم آجلًا، سواءٌ من جرّاء الكورونا أو من جرّاء اعتلالات جسديّة ونفسيّة وبيولوجيّة وكونيّة أخرى. المهمّ أن يحيوا قبل موتهم حياةً لائقة بكرامتهم. ليس يفيد الإنسان أن ينتحب على مصير البشريّة في زمن الكورونا، وهو في غفلةٍ عن نوعيّة الحياة التي ينبغي له أن يحياها. الموت انقلابٌ إلى ضفّة أخرى من الحياة، وانغماسٌ في لجّة الفيروس الأعظم. وما من سلطة للإنسان عليه. سلطتُه الوحيدة أن يتدبّر الآن شؤون الحياة ما دام سالكًا في شعابها، منتظمًا في تدفّقها، ناشطًا في اعتمالاتها. معنى الكورونا أن يحيا الإنسانُ حياته الإنسانيّة في عمق التبصّر، ورجاحة الرأي، وحكمة القرار، ورقّة المعاشرة، ودفء الأخوّة، وصدق التضامن، وبهجة الإبداع، ونور الكون.

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. كورونا القيم وإكسير الخلاص
    ما معنى الكورونا؟ مقالة للبروفسور مشير عون، بل كتاب حياة، أو وصيّة فلسفيّة تغوص في خلفيّات الوجود البشري، وقد هدّدته فيروسات الذات الإنسانيّة، بجهالاتها، وأنانياتها، والأحقاد.
    الكورونا، في عرف الفلسفة “العونيّة” (نسبة إلى البروفسور عون) ليست الموت، ولا تختلف عن مسبباته الأخرى، كما قال الشاعر العربيّ:
    من لم يمت بالسيف مات بغيره/تعدّدت الأسباب والموت واحد
    بين الكورونا والموت صداقة لدودة. الموت يناجيها وهي تغازله بأوهام البقاء. ولا بقاء. وهذا ما راود خيال الشاعر الجاهليّ زهير بن أبي سلمى:
    كل ابن أنثى وإن طالت سلامته/يوماً على آلة حدباء محمول
    واليوم نقول: يوما على آلة الفيروس محمول. فالكورونا هو الآلة الحدباء التي روّعت العالم بأسره، فأصابه الهلع، بشكل فاق النظير.
    لماذا يخاف الناس الموت؟ والموت كما يصفه البروفسور المشير “انقلاب إلى ضفة أخرى من الحياة”.
    وما الضفة الأخرى في نهر الوجود/العدم؟
    وما الفيروس الأعظم الذي ينتظر الإنسان على الضفة الأخرى للحياة؟
    لا يملك النهر تغييراً لمجراه، يقول الشاعر النزاريّ، فهل يملك الإنسان أن يغيّر قوانين حياته، أو أن يتلاعب بالمصير؟
    أيمكن للإنسان مهما علا شأنه، وازداد شأوه، في مجال العلوم، أن ينجو من فيروسات الحياة، وما بعد الحياة؟
    ونسأل من جديد، مع البروفسور الفيلسوف: ما الكورونا؟
    يجيبنا عالم اللغة: “الكورونا هي التاج”. وللكثيرين الرتاج. رتاج يحجز الكبار والصغار، في قفص الرعب الهيتشكوكي. والسبب فقدان المناعة، أو ضعفها على الأقل.
    ويقول رجل الدين: ” الكورونا هي غضب الإله على البشر، بسبب غروره وفساده، وانحرافه في دروب الخطيئة والضلال. إنه الطوفان الجديد… الذي سينقذ البشريّة من الهراء”.
    ويقول التاجر: الكورونا فرصة للربح واستغلال حاجات الناس، إلى الوقاية. يريدون إنقاذ أنفسهم من الموت؟ فليدفعوا ثمن الحياة. سأبيعهم حتى الهواء.
    ويقول الملحد والعالم: “الكورونا نتيجة حتميّة للذين يرضخون للغيبيّات، للسحر، وخزعبلات الأديان. ولن ينقذ الإنسان إلا اختراعاته الطبيّة، ولا شيء عداها”.
    ويقول الفلاسفة: “كما كان الانفجار الكبير علّة الوجود، فإن الانفجار الفيروسيّ سيكون علّة الفناء”.
    ويضحك المنجّمون قائلين: “قلنا لكم فلم تصدّقونا. العالَم نحو الفناء، هكذا قالت حذام النجوم والكواكب وطوالع الأسماء”؛ وإنّ القول ما قالت حذام.
    الفيروس الأعظم هو الموت/ العبور. ولكنّه ، على الرغم من حتميّته وسلطته المطلقة، ليس الفناء، ولا العدم. هو حقل اختبار للقيم. وميدان الاختبار في هذه الضفة لا في ما عداها. فلنصلح الأرض تصلح السماء. ولنحصّن مناعتنا في الحياة نقِ ذواتنا في ما بعد الحياة.
    الكورونا في فلسفة البروفسور عون ليس سوى امتحان للإنسان. وعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان.
    يقول الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي: لا يمكن للإنسان أن يتعلم فلسفة جديدة وطريقاً جديداً في هذه الحياة دون أن يدفع الثمن. والفلسفة التي يعلّمنا إياها فيروس الكورونا، والبروفسور عون، وندفع ثمنها الآن، هي أهمية حفاظ الإنسان على مناعته الجسديّة والأخلاقيّة القيميّة التي من دونها لا خلاص له، ولا قيامة.