قراءة “في الضيعة عندنا…” لعماد يونس فغالي

Views: 955

سليمان يوسف إبراهيم

تدخل حرم ضيعة الكاتب، لتجد عنده منهلا لعادات وتقاليد ومواقف من كرم كرامة ومعجن رجولة قد جناها أرغفة حكايا؛ يقيت بمجريات أحداثها اﻷجيال أرغفة من أدب يستسيغه الفكر ويطمئن إلى غذائه القلب، في زمن بتنا نشتاق فيه إلى رغد فكر وهناءة قلب؛ هما محركَي اﻹنسان على دروب الحياة سالفًا؛ حاضرًا وما دام سيضج في خلده نبض أحلام وأمان…

فالكتابة عند  د. عماد يونس فغالي؛ ليست مجانية ولا لترف؛ بل أتت في كل اﻷقاصيص هادفة، يصبو من خلالها إلى بنيان مداميك شخصية اﻹنسان بما يسمو بها من قول أو فعل أو موقف لائق بعظمة اﻹنسان الذي أراده الله من فعل خلقه له.

ناس حكاياه وأقاصيصه؛ ناس طيبون كبار نفوس؛ عاشوا انسانيتهم بكل بساطة وتلقائية، مُنحِّين الفلسفة والعلم وطرق استنباط الحلول… فحياتهم؛ على بساطتها؛ جعلته يستخلص في خواتيم قصصه؛ موقفًا انسانيًا أو عقيدة شكلت عند صاحبها فلسفة عيش.

كما ونجد أن الكاتب نهل أقاصيصه عن شفاه وألسنة ناس عايشهم، ربي معهم أو تربى عليهم، أم وصلته حكاياهم بالتواتر، يقطفها عن ألسنة كبار السن من ضيعته أو من عاش الحكاية بواقعيتها وتفاصيل وقائعها….

د. عماد يونس فغالي

 

في تقلب اﻷحوال جميعها؛ أجد الكاتب، بقصه ورويه الحكايا قد جعل من أشخاص ضيعته شخصيات سيتداول أسماءهم كل من سيقرأ كتابه… فلم يبقوا أشخاصًا سيطويهم الزمان بعد جيل من رحيل، بل غدوا شخصيات ستتداول مواققهم وأقوالهم أجيال حيث تذهب جميعًا مضرب مثل أو مُستذكَرًا تعود إليه ذاكرات اﻷحياء عند كل موقف مماثل .

  في اﻷقاصيص، يلفتك الرَّاوي الحاضر، كون معظمها كان مشاركًا بها، عائشًا لتفاصيلها، كما وأن الرَّاوي الغائب، متى غاب، لينقل لنا قصة لِما فيها من مغزًى إنساني، تجد نَفَس الرَّاوي يلهث سعيًا لاقتناص الجمالات وتثبيتها في دفتر اﻷيام لتترك في شخص القارئ ما خلت في نفسه من ندب طيبات… كل ذلك بأسلوب قصصي شيق داني القطوف عقدة، حلا وتنامي أحداث، بلغة سليمة المبنى والمعنى تصيب المرجو باستعماله مفردات تنأى عن العويص والحوشي، ينهلها المبتدئ كما ويستسيغها المتعمق، دون ما جهد سعي خلف اقتناص المعاني…

أمقلد هو بما جادت به يراعه أم مجدد؟ إن كان اتباع الرأي الصائب يعتبر تقليدًا، فهو مقلّد لِما فيه خير اﻷدب والمجتمع اﻹنساني: فبمثل ما نقل إلينا أدباؤنا من أحداث الزمن المنصرم ولولا أدبهم لما كنا قد تعرفنا إلى أحداث تلك الحقب وشخصياتها؛ هكذا د. عماد يونس فغالي وبمثله هو مقلّد، ينقل إلى أجيال فغال ومن بعدهم إلى أجيال الوطن وعشاق لغة الضاد من بعدهم سِيرًا ومواقف يتداولونها وبمآتي كبارها يتماهون… وعما غث منها يبتعدون ومن مثل شخصياتها يأنفون…

أما التجديد في أدب اﻷديب، هو في كون “في الضيعة عندنا…” يلبس لبوس صاحبه أسلوبًا ومضمونًا ورهافة تعبير…. حسبه أنه في حكاياه، يحفظ جيلا من الكبار، لم يحظ جيل ضيعته ولا جيل هذا الزمان معايشته والتكسّب من حكمته وسعة استعماله لمداركه العقلية وبُعد رؤآه للمستقبل بالفطرة وصدق العاطفة، مع أن معظمهم لظروف حياة قاسية لم يكن ليتعرّف الكتابة والقراءة؛ فكتبوا بمواقفهم وتركوا للزمان أن يتهجى مقالهم ويتتبع أهله خطاهم!!

 

فمن يقصد ضيعة الكاتب عبر السطور؛ يجدها سجلا لعادات وتقاليد وشخصيات على أرضها عبروا أو لا زالوا على قيد أحلام ومنى وأمال بالغد… فلا غرابة؛ لطالما أن حضارة الشعوب إن غاب تاريخها فمن أدبها حضارة يُقرأ…. وقد تداول الكاتب مجتمعه وأهل مجتمعه بما فكه من أسلوب لاذع مدهش العبارة، غايته من كل ذلك أن يحفظ ضيعته بواقعية حضورها على خارطة الوطن بأشكالها اﻹنسانية والبيئية والاجتماعية: إنسانيًا؛ دينيًا وعلميًا…

فغال، تلك الرابضة عند تخوم بلدة تحوم، آخر بلدات جبل لبنان، لم تبخل على الوطن بالعلماء والموظفين والجنود واﻷطباء والمعلمين والكهنة والرهبان… فنجدها خدمت الوطن بكل قدراتها واﻹمكانات غير ضنينةٍ… كما وحفظت للأرض حراثها وحراسها من مزارعين وأحباب عطر التراب؛ الدافق على البيوت وأهلها ومن رام تعلمًا من بنيها…

وما لفتني في معظم أقاصيص الكتاب، أنها ليست مجرد أقاصيص تروى للصغار تحقيقًا لنوم هانئ ولا لروايتها في أمسيات الموقد أو السمر على بساط الصيف الواسع؛ بل بمعظمها غدت نهج حياة وتربية تنشأ عليها الصبية واتعظ من أمثولاتها أهل البلدة وحملوها على ألسنتهم مبادئ ومراجع يرجعون إليها لييسروا شؤونهم أو ليتمثلوا بما قيل أو جرى في مواقف مماثلة… وفي جميعها القلوب تحيا بإيمان خاشع تجاه شفيع الضيعة مار مخايل؛ أو “شفيع الصبيان” والعاقر،  مار مطانيوس… أو بانحناءة وفاء وحب مقيم للأم من بنيها، جدة المؤلف، التي يزورها مع عمه الخوري مصليًا طالبًا شفاعتها من عليائها! أو حضور الطوباوي اﻷخ اسطفان نعمه الذي حفظ جنينًا جديدًا في بطن أمه، بعد أن توفي الجنين في أحشائها… هي حكايا، إن نمّت عن شيء؛ فعن عمق إيمان أهل القرية وتسليمهم حياتهم بكل شؤونها وشجونها بقلب منسحق لرب العالمين.

    أَال”فغالي” هو ابن فغال؟ أم أن “فغال” هي أم “الفغالي”؟ ما همّ.

   لقد طويت السَّفر؛ وفي نفسي أن هذا الفغالي، بما أتى، قد حفظ أمه اﻷرض، ما دامت أرض حول شمسها تدور. وهي، شرفت حضوره بما أغدقت عليه من طيب النسب والحسب وما حقق من إنسانيته بعلم وموقع بين ناسه: رجل، بما أتى، رام من قلمه أن يحفظ ضيعته، ناسها ونفسه أحياء بين أهل الضاد وقرائها؛ فكان له ما أراد من سهره ومجاهدة اللّيالي سعيًا خلف حفظه الجوهر من الحياة، فتحقق.

                           (عنايا، في 30/ 3/ 2020)

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *