متى الانسحاب…

Views: 1110

لميا أ. و. الدويهي

تعلِّمنا الحياة وبطرقٍ شتَّى، أحيانًا سلسة وأحيانًا أخرى مؤلمة، متى الانسحاب…

هناك مَن يُصرُّ على المُثابرة حتَّى النِّهاية، وهو أمرٌ جيِّد، نحتاجُهُ للمُضيِّ قُدُمًا في الحياة. وإنَّما الحكمة تُعلِّمُ أيَضًا، أنَّهُ أحيانًا يجبُ التَّراجعُ عن تحقيقِ مآرب مُعيَنة ولو كان إنجازهُا مُحتَّمًا، فتحقيق الأهداف قد يُكبِّدُ خسائرَ في النَّفس أعمق وأكثر أذيَّة؛ وإن لم تكن كذلك للشخص بحدِّ ذاتِهِ، قد تكون كذلك لمَن يُحيطُ بهِ، لذلك وجبَ دومًا تقييم الحالة ووضع الأولويَّات… ففي بعض الأحيان الخسارة بمكانٍ ما، قد تُشكِّلُ مَكسبًا في مكانٍ آخر وانعكاساتِه قد تكون إيجابيَّة في نواح مختلفة، ربَّما إنسانيَّة ووجدانيَّة، تُنمي الفرد وتساعده على تحقيق ذاته فتكسبهُ خبرةً ونضوجًا، يحتاجهما لحياة أفضل… فليس كلَّ مَن ربحَ انتصر ولا مَن خسِرَ انكسَر…

في الأمور الحياتيَّة والعمليَّة، قد يكون الانسحاب أو التراجع أسهل، إذ لا تقتضي الأضرار سوى على كبرياء الشخص والأنا التي تدفعه ليكونَ الأفضل والمتقدَّم على الآخرين في المجالات التي ذكرتها، فكلٌّ منَّا، في مكانٍ ما، يودُّ التفوُّق وإثبات الذات وتحقيق المكانة الأنسب، وهو أمرٌ جيِّدٌ ولا بدَّ منه… ولكن لا بأس أحيانًا من الخسارة، فقليلٌ منها قد يدفعُ بالإنسان إلى التواضع واكتشاف محدوديَّته وأنَّه يوجد في العالم أمكنة لغيرِه، وأنَّه كما هو موهوبٌ في عمله، كذلك هم آخرون…

أما المؤلم وأحيانًا كثيرة هو الانسحاب من حياة الآخرين، وهنا تتشعَّبُ الاحتمالات والظروف وتختلفُ وجهات النَّظر، كلٌّ بحسب الحالة التي يمرُّ بها وبحسبِ الوجهة التي تسير بها حياته، حيثُ يحاول الإنسان تحقيق ذاته ليبلغَ «سعادة» ما يطمحُ إليها أو يعمل لأجلها، علمًا أنَّه في كثير من الأوقات يكتشفُ أنَّ ما بلغهُ ليسَ هو الذي يبتغيه في العُمق، وأنَّ سعيَهُ قد ضاع هباء… إلى ما هنالك من أمور وحالات واحتمالات لا يمكنُ حصرها في مقالة ولا حتَّى في مئة، فلو تشابهتِ الحالات، يبقى لكلِّ إنسانٍ فرادته وطريقته بتلقِّي الأحداث والتفاعل معها… 

إلَّا أنَّني أودُّ تسليط الضَّوء على نقطةٍ تتعلَّقُ بمَن يُواكبُ إنسانًا ويُرافقُهُ في مرحلةٍ من حياتِه؛ قد تكون حكمته وخبرته واسعة لدرجةٍ يكون فيها قادرًا على استباق الأحداث ورؤيتها وتحليلها وبالتالي يكونُ قادرًا على مُساندة الآخر وإبداء رأيه بموضوعيَّة وحتَّى بتجرُّد… قد يصبحُ هذا الشخص مصدرَ دعمٍ وحاجة مُلحَّة، إلَّا أنَّهُ يجبُ الانتباه كي لا يُصبحَ هكذا أشخاص مرجعيَّة ووجودهم ضرورة حيويَّة، إذ يجبُ أن يكونَ لكلٍّ فرد قرارهُ الخاص وتوجُّهه الخاص وحتَّى رؤيته الخاصَّة… من المهمّ العمل على دعمِ مَن يحتاج المساعدة ولكن من المهمِّ أيضًا معرفة متى الانسحاب، ففي وقتٍ ما وجبَ للمُتابعة أن تتوقَّف كي يستطيعَ الآخر أن يُحلِّقَ بجناحَيه… وهذا الأمر ينطبقُ أيضًا على البنين؛ يظلُّ الأهل يحتضنونَ أبناءَهم إلى أن يبلغوا، وحينها وجبَ وبوعيٍ التحلِّي بالقوَّةِ الكافية والقدرةِ الكاملة لإطلاقهم في حقولِ الحياةِ الواسعة لتحقيقِ ذواتهم وعيش خبراتهم الخاصَّة، وكم هو مهمّ أن نكونَ قد سلَّحناهم بقيَمٍ ومبادئٍ ليثبتوا عليها… 

أمَّا الأفكار فتتطوَّر وتتغيَر وأمَّا المبادئ والقيَم فتثبت وترسخ في الوجدان وتغدو كسلاح نستندُ عليهِ كي لا نضعفَ لدى مواجَهتنا المِحَن…  

وأُنهي بتأمُّلٍ صغير: «إنَّ مَن يُحبُّ بصدقٍ، هو قادرٌ على تحرير الأحبَّةِ من قيودِ الأسر، برغم ألم الفراق… وإذا كانت هذه المحبَّة مُتبادلة وحقيقيَّة، في مكانٍ ما وزمانٍ ما، هناك حتمًا لقاء»… 

  ١٠/ ٣/ ٢٠٢٠

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *