إنقاذ الإنسان من أُروبّا

Views: 113

أ.د. مشير باسيل عون

 يُجمع أهلُ البصيرة على القول بأنّ الأنظمة الرأسماليّة والشيوعيّة والإيديولوجيات القوميّة والدينيّة أضرّت بالإنسانيّة أيّما ضرر. اجتهدت جميع هذه الأنظمة والإيديولوجيات في الانتصار لتصوّراتها المعرفيّة والمسلكيّة المتطرّفة، فأهملت الشخص الإنسانيّ في صميم جوهره، وعمق كيانه، وأصالة كرامته، ومعنى حرّيّته، وجميل وعيه، ومسعى عقله، ورهافة وجدانه. لذلك لا يمكن أن تنفصل مأساة الكورونا عن هذا المسرى التسلّطيّ الذي اتّبعته هذه الأنظمة في ادّعائها القدرةَ على صون الإنسان ورعايته وإنعاشه وتعزيزه وتطويره. (smallhandsbigart.com)

أفدحُ ما يُحزنني أن أرى التراث الفكريّ الإنسانيّ المبثوث في تضاعيف جميع الحضارات يذبل ويذوي وينكفئ، وقد أوشكت أن تجهز عليه مثلُ هذه الأنظومات الفكريّة والسياسيّة الملتوية. في هذا السياق، لا بدّ من الاعتراف بأنّ الإسهام الفكريّ الأُروبّيّ الذي تجلّى في عصر النهضة وعصر الأنوار وعصر الحداثة رسم للإنسانيّة سبيلًا راقيًا من التدبّر الحصيف الواعد. غير أنّ رقيّ هذا الإسهام الأُروبّيّ عطّلته تعطيلًا جسيمًا عواملُ الانحراف التي أصابت الأنظمة السياسيّة الغربيّة، ولاسيّما خارج أسوار المجتمعات الأُروبّيّة، وامتحنته امتحانًا قاسيًا ارتداداتُ الفكر الغربيّ العبثيّة التي أصابت هذه المجتمعات منذ منتصف القرن العشرين وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، وأذلّته إذلالًا قبيحًا تواطؤاتُ القوى الخفيّة التي تضرب في أعماق المباني الفكريّة والحياتيّة وفي مسرى المحافل السياسيّة والمنتديات الاقتصاديّة والمجامع العلميّة.

إذا ما نظر المرء في هويّة القوى المؤثّرة في زمن الكورونا، ألفى نفسَه محاطًا بحلقتين عظيمتين من سلاسل الأسر والعبوديّة. الحلقة الأولى تضمّ أربعة بلدان عظمى تؤثّر تأثيرًا فاعلًا مباشرًا في مسرى الأحداث، عنيتُ بها الولايات المتّحدة الأمِريكيّة والصين والاتّحاد الأروبّيّ وروسيا، فيما الحلقة الثانية تشتمل على قوى تخطيطيّة إنتاجيّة عابرة الحدود، ألا وهي دوائر الاستخبارات العالميّة، ومنتديات البورصات والنفوذ المصرفيّ الماليّ، وتجمّع مُصنِّعي الدواء ومختبرات الأبحاث العلميّة العلنيّة والمكتومة، ومحافل الالئتامات السرّيّة كالماسونيّة والصهيونيّة ومنتدى المستنيرين (الإلُّميناتي) ومنتدى المغفَّلين (الأنونيمُس)، وما شاكل ذلك من أخلاط بشريّة تتواصل تواصلًا منفعيًّا ينتهك حدود الدوَل والدساتير والنواميس والشرائع، وتجمُّع مصانع الأسلحة الناريّة والضوئيّة والنوويّة والكيميائيّة والبيولوجيّة، وشركات الإعلام العالميّة الأخطبوطيّة الضخمة في جميع هيئاتها المقروءة والمسموعة والمرئيّة والإلكترونيّة.

فلا أهل العرب، ولا أهل أفريقيا، ولا أهل الهند، ولا أهل أمِريكا الجنوبيّة، قادرون على التأثير في مجرى الأحداث الكونيّة الحاسمة. ولا هم يستطيعون أن يتدبّروا مسائل الخروج من التأزّم الكونيّ الذي أفضى بنا إلى هذا الاضطراب البنيويّ الناشب في ثنايا الوجود الحيّ، وقد اعتلن اعتلانًا مربكًا في فيروس الكورونا. اقتناعي الراسخ أنّ جائحة كورونا مقترنةٌ اقترانًا وثيقًا بالإهمال المسلكيّ الكونيّ، أي بالسياسة العالميّة التي تُفرَض علينا فردًا فردًا في دوائر الاستعباد هذه. لقد أصبحنا عبيدَ التصنيع المتفلّت، والتسويق المجنون، والإعلام المسيَّر، والمنفعيّة الهوجاء، والتسلّطيّة الجامحة. غير أنّ السؤال الأخطر الذي ينبثق من معاينة الاضطراب الكونيّ لا بدّ له من أن يستفسر عن أسباب تحوُّل الرقيّ الإنسانيّ الحديث، ولاسيّما في أُروبّا، إلى سيلٍ جارف من الانحطاط والاستفساد.

لن يجرؤ كثيرون على ترصّد أحوال الانقلاب الذي أصاب الفكر الإنسانيّ الحديث، خصوصًا في التحرّي عن التحوّلات التي انتابت كلَّ قوّة من هذه القوى الكونيّة الأربع. أجازف فأستطلع كيف انتقلت أُروبّا من طور الاستبداد (القرون الوسطى)، إلى طور الاستبداد المستنير (القرن الثامن عشر)، إلى طور الإنسيّة الدِّموقراطيّة (القرن التاسع عشر حتّى منتصف القرن العشرين)، ومن ثمّ إلى طور التفكيكيّة والعدميّة في الفكر، وطور الفرديّة العبثيّة في الاجتماع، والرأسماليّة المتوحّشة والاستهلاكيّة المفرطة والمضاربة المصرفيّة الأسهميّة الافتراضيّة في الاقتصاد والسياسة. وأجازف فأستجلي باقتضاب كيف تحوّلت الولايات المتّحدة الأمِريكيّة من براءة التأسيس الأصليّة والتعاطف الكونيّ الودود إلى انحرافات الرأسماليّة المستقبحة وغلواء الاستعلاء والاستكبار والهيمنة، وكيف تقهقرت روسيا من مرحلة الاستبداد الإمبراطوريّ المستنير إلى مرحلة الاستبداد الشيوعيّ المهلِك، وما لبثت أن ارتدّت إلى مرحلة اليقظة القوميّة المزهوّة بشيء من الاقتدار المسكونيّ المنعطب، وكيف تبدّلت سماتُ الحضارة الصينيّة من زمن الصوفيّة الحِكْميّة الأصليّة إلى زمن الانتهازيّة الاقتصاديّة الآليّة الروبوتيّة، مرورًا بما يُدعى بالثورة الثقافيّة الاجتماعيّة الماويّة.

لا يظنّنّ أحدٌ أن جائحة الكورونا منعزلةٌ عن سياق هذه التحوّلات الكونيّة الخطيرة. فكلّ عناصر الكون يقترن بعضُها ببعض اقتران العلّة بالمعلول. والحياة الكونيّة شبكةٌ من الارتباطات العميقة تنشط من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، فتؤثّر تأثيرًا بالغًا في توجيه الحياة الإنسانيّة وضبط تموّجاتها واستثمار تفاعلاتها. حزني العظيم أنّ أطوار الفكر الإنسانيّ الراقي، وهو ما يُدعى بالإنسيّة المتجلّية في جميع هذه البلدان، ولاسيّما في القارّة الأُروبّيّة، خنقتها الانحرافاتُ الاقتصاديّة والسياسيّة التي أصابت الوعي الإنسانيّ فردًا وجماعةً. من المفيد في زمن الخلوة الكورونيّة أن نستذكر أقوال الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسِّرل (1859-1938) في وصيّته الفلسفيّة التي نُشرت بعد وفاته حاملةً عنوانًا بليغًا أوردُ الجزء الأوّل منه: أزمة (Krisis) العلوم الأُروبّيّة. في اعتقاده أنّها أزمةٌ ناشئةٌ من التناقض بين علوم الطبيعة وعلوم الحياة الإنسانيّة. فالعلم الحديث لا يستطيع أن يشفي الوعي الأُروبّيّ لأنّه هو سببٌ من أسباب الأزمة الأُروبّيّة، يجرّ في تطبيقاته التقنيّة على أُروبّا أبشعَ أصناف البربريّة.

الحقيقة أنّ العلوم شيَّأت الواقع، وجعلته موضوعًا للتسلّط الذهنيّ والهيمنة الحسّابة. من عواقب هذا التشييء سيطرةُ الاقتصاد الخانقة على مجرى الوجود. فالعالم الإنسانيّ الحيّ (Lebenswelt) ليس موضوعًا للبحث المادّيّ التجريبيّ، بل تجدر مقاربته مقاربةً تليق بخصوصيّته، وبكرامة الوجود الإنسانيّ المبنيّ على التعاطف الوجدانيّ، والمودّة المتضامنة، والتشارك البنّاء المغني. لا يجوز، والحال هذه، أن تنشأ هوّةٌ عظيمةٌ بين علوم الأشياء وعلوم الحياة، ولكأنّ الحياة عصيّةٌ على التدبّر الهنيّ، أو لكأنّ الأشياء هي كلّ الحياة. فالاقتصاد ليس كلّ الوجود، والسياسة ليست كلّ الوجود، والتقنية ليست كلّ الوجود. لا يُنتشل الإنسانُ من هذا “الغرَق الشكّيّ”، على نحو ما يفصح عنه هوسِّرل، إلّا بإعادة تأهيل العقل المتعاطف مع سنّة الحياة الإنسانيّة ومنعتها وكرامتها وخصوصيّتها.

في هذا الكتاب الوصيّة يتأمّل هوسِّرل في الإنسان، وقد تحوَّل ذاتًا تتفكّر في العالم، وموضوعًا قابلًا للأخذ والتحليل والتشريح الاختباريّ. رأيي أنّ أُروبّا فقدت بعضًا من إنسيّتها الفكريّة ومن رقيّها الإنسانيّ حين أهملت الذاتَ الإنسانيّة فاعلًا أساسيًّا في التاريخ، وحوَّلتها إلى موضوعٍ للاختبار العشوائيّ، ولاسيّما في مختبرات العلوم والاقتصاد والسياسة. أمّا الحقيقة الأصليّة القبْليّة الكونيّة الشاملة، فهي أنّ الذات الإنسانيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعالم الحياة. غير أنّ المسكونة اضطربت في زمن ما بعد الحداثة لأنّ الأنظومات السياسيّة والإيديولوجيات القوميّة والدينيّة سلخت الذات عن الحياة، فجمّدتها في هيئة واحدة خانقة، عنيتُ بها هيئة الخضوع العَبديّ والاستهلاك المميت.

عالم الحياة هو التربة الأصليّة التي تحتضن تفتّحات الوجود الإنسانيّ الفرديّ والجماعيّ، وتقتبل انفعالات الوعي في سعيه إلى إدراك معاني التلاقي الكيانيّ والنشاط الإبداعيّ في جميع أبعادهما. في مستطاع الإرث الفكريّ الإنسانيّ الأُروبّيّ أن يهب البشريّة مثالًا راقيًا من الكرامة والحرّيّة والمساواة والأخوّة. غير أنّه ابتُلي بأزمة بنيويّة حادّة، نجمت عن تسلّط تأويلٍ خاطئ تناول إسهامًا جليلًا من إسهاماته، عنيتُ به التأويل الدِّكارتيّ الحسابيّ الرياضيّ التتبّعيّ التدقيقيّ وهيمنته على الوجود الإنسانيّ. وما الاقتصاد العالميّ سوى الوريث الشرعيّ لمثل هذا الفكر العلميّ التعقّبيّ الاستغلاليّ الاستئثاريّ الذي يُطبق على عالم الحياة، ويحوّله إلى بركان متّقد من الإنتاج التضخّميّ المفرط، والاستهلاك الاحتباسيّ الموجَّه.

لا خروج من الأزمة إلّا بتحرير الحياة من براثن الحسابيّة الإنتاجيّة الآليّة، وإخضاع العلوم لإرشاد الفكر الإنسانيّ الذي تقوده الفلسفة من أجل إعادة اكتشاف الذات الإنسانيّة الحرّة الواعية القادرة على التنعّم ببركات الوجود على غير ما تفرضه علينا الإعلاميّاتُ السوقيّة الافتراضيّة المزيّفة. ذلك بأنّ علميّة المسعى الإنسانيّ لا تقتصر على إذلال الناس والأشياء والكائنات والموجودات، وإخضاع الكلّ لمقياس التحليل الاستقصائيّ الاختزاليّ النفعيّ، بل تقوم العلميّة السليمة على انتهاج سبيلٍ جديد من احتضان تدفّق الحياة في عالم الإنسان الحكيم المستنير المتبصّر، الزاهد في المقتنى، الراغب في الملتقى، التائق إلى المرتقى.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *