السياسة اللبنانية، مقاطعجية حتى العضم

Views: 891

 العميد الركن أنطون مراد

منذ أن تفتّح فيّ الوعي وأنا أرى وطني يتراجع ويخسر تدريجيًا مقدّراته وسمعته التي كنا نفاخر بها أمام العالم. كنت أتطلّع دائمًا إلى المستقبل ظنًا مني بأنه قد يكون أفضل. تدحرجت الأيام وصرنا في المقلب الثاني من العمر وما زلت أرى لبنان يتعذّب واللبنانييون يفقدون الأمل بهذه الشلّة السياسية المسؤولة عن عذاباتهم.

نسيت المستقبل وعدت إلى تاريخ لبنان لأفهم من أية طينة جُبِل هؤلاء السياسيون وبأية عقلية يتصرّفون مع شعوبهم.استقرّ بي التركيز عند مرحلة الإمارة حيث تم اعتماد نظام الإقطاع الذي استمر 345 سنة، وألغته المادة الخامسة من بروتوكول 1861 المعدّل بموجب بروتوكول 1864 (نظام المتصرّفية).

طوال هذه الفترة، كان يرأس كل ناحية رجل يدعى “مقاطعجي” ينتمي إلى عائلة مقاطعجية. معظم هذه العائلات لا تزال حتى تاريخنا هذا، إما داخل السلطة أو على الرصيف تنتظر دورها، فبدأنا نسمع بمصطلح “البيوت السياسية”. كان المقاطعجي يفرض الضرائب على مزاجه، فبدلاً من اقتطاع ضريبة ثمانية بالمئة، كما كانت العادات حينها، وصلت الحال ببعضهم إلى اقتطاع ضريبة 29 بالمئة تلبية لحاجاتهم الشخصية.

كانت الوظائف الحكومية بالمزاد، وكان القيّمون يتفنّنون في تغيير أصحاب الألقاب بغية ابتزاز المزيد من المال. وكان كل صاحب منصب يعمل على استرجاع الأموال التي دفعها من مال الشعب الفقير. لم يكن حينها من قوانين ثابتة، وكان الأمير يمارس سلطته بشكل مطلق من دون أي محاسبة طالما أنه يدفع الميري والضريبة للسلطان.

بعد انهيار نظام المتصرّفية، تمّ التعاطي مع المجموعات التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية كطوائف، وتمّ وضعها تحت الانتداب لمساعدتها كي تتحوّل إلى أوطان مستقلّة عندما تصبح قادرة على تسيير أمورها بذاتها.

اليوم، بعد مرور أكثر من 500 سنة على نظام الإمارة، وبعد أن أصبحنا على مشارف وداع المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، أرى بكل ضمير مرتاح أننا لم نصبح قادرين على تسيير أمورنا بأنفسنا، وأرى أن عقلية المقاطعجي لا تزال هي الطاغية على سلوك معظم السياسيين اللبنانيين الذين يديرون هذا البلد المعذّب.

فالسياسي اللبناني يحتال على القوانين ويعتبر نفسه فوقها، وبدل أن يطوّر مفهوم العائلة إلى مفهوم الأحزاب الديمقراطية، حوّل الأحزاب إلى عشائر في خدمة العائلة. لذا، نرى الأحزاب اللبنانية تنتقل بالتوارث من الجد إلى الابن إلى الحفيد. وفي حال عدم وجود أبناء ذكور، يورث الحزب إلى زوجته أو اي قريبٍ يؤمّن استمراريته.

انطلاقًا من حزب العائلة، يبدأ السياسي المقاطعجي بفرض النواب والوزراء على أساس الولاء المطلق أو على أساس الدفع المسبق من أصحاب الثروات الذين يدفعون مبالغ طائلة للوصول إلى السلطة، لعلمهم أنهم سيعوّضون أضعاف ما دفعوه من الصفقات التي ستسمح لهم مناصبهم بتمريرها لصالحهم وصالح أولياء نِعمهم.

بعد النيابة والوزارة، يلجأ المقاطعجي اللبناني إلى محاولة الإمساك بكل مفاصل السلطة لتأمين بقائه في هذه الجنّة أطول وقتٍ ممكن، وربما إلى الأبد، لمتابعة سرقاته وزيادة أرصدته على حساب لبنان واللبنانيين، فكان مبدأ “المحاصصة” الذي يمارسه السياسيون بشكل مكشوف من دون خجل أو وجل.

المحاصصة بمفهوم السياسيين هي المجيء بأشخاصٍ منفّذين لا أصحاب قرار. وحتى يضمن السياسي ولاء من يعيّنه يختاره من بين الضعفاء، وحتى يقبل الموظّف بالتبعية للسياسي يكون حكمًا غير واثق بكفاءته. لم يعد اللبنانييون يثقون بمؤسساتهم لأنها، بنظرهم، تحوّلت إلى مجموعات على رأسها مقاطعجي يريد سرقة الناس لاسترجاع ما دفعه للأمير الذي لم يعد أيضًا أميرًا بنظر اللبنانيين بل عبدًا للسلطان.

اليوم، وصل لبنان إلى حافة الإفلاس، أموال المودعين بخطر، مالية الدولة فارغة وأموالها أصبحت في جيوب السياسيين وحاشياتهم، الدولة عاجزة عن دفع ديونها، وقد أصابها الوهن نتيجة اللكمات اليومية التي تكيلها لها الأحزاب اللبنانية التي تنادي جميعها كذبًا بالدولة القوية. وجاء وباء الكورونا فتعطلت الأعمال ولازم اللبنانيون بيوتهم خوفًا من أن تصبح الأمور خارج سيطرة الحكومة اللبنانية التي تعمل ليل نهار، ولكنها استلمت البلد على العضم من السياسيين الذين ما زالوا يرمون أثقالهم على أكتافها وينتقدونها على كل قرار تتّخذه متناسين أنهم مسؤولون عن الحال المهترئة التي يعيشها لبنان.

اليوم، رغم الوضع المأساوي الذي نعيشه ورغم خوفنا على مستقبلنا ومستقبل أولادنا، نرى السياسيين اللبنانيين يتصرّفون وكأنهم من كوكبٍ آخر، يواصلون ممارسة تحاصص الدولة، أوقفوا التشكيلات القضائية لأنهم يريدون من القضاة أن يحكموا باسمهم لا باسم الشعب. أوقفوا التشكيلات في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وغيرها…، لأنهم لا يريدون حاكمية ولا رقابة إلاّ على طريقتهم ووفقًا لمصالحهم الخاصة.

من المسؤول عن هذا الواقع المؤلم؟ أنا لا أؤيّد تحميل الشعب المسؤولية لأن برأيي القائد يصنع الشعب الذي بدوره يبدأ بفرز قادة. المهاتما غاندي أوجد الغاندية والجنرال ديغول أوجد الديغولية وغيرهما مئات الأمثال. المسؤول هو السياسي اللبناني الذي يطبّع الشعب (ناسه) على الإذلال والتبعية والحاجة الدائمة للزعيم للحصول على أبسط حقوقه. لا أريد التعميم، لأني متأكّد أن بين السياسيين من هم أصحاب ضمير ووطنية ويحاولون إنقاذ لبنان رغم الصعوبات الكبيرة التي تعيق محاولاتهم نتيجة الالية الصدئة والمكبّلة بالعقلية الطائفية والإقطاعية.

لهؤلاء، أتوجه بالتشجيع لمتابعة بناء الثقة مع الشعب وتربيته على العزّة والكرامة والسعي لإعادة لبنان إلى مصاف الدول المتحضّرة.

أما لجماعة المقاطعجية فأقول، لم يعد الشعب اللبناني يثق بكم، لا أمل لقيامة لبنان بوجودكم لأنكم كل يوم تثبتون قولاً وفعلاً أنكم “مقاطعجية حتى العضم”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *