حكايتي مع المرسوم “رقم واحد” وتحدي الرئيس شمعون قرار الرقابة على “صوت الأحرار”

Views: 1051

جورج برباري

بعد تسلّم رئيس الجمهورية اللبنانية الياس سركيس مهامه الدستورية في 23 أيلول 1976، ودخول ما عُرف بقوّات الردع العربيّة التي ضمّت ألويةً من الجيوش السوريّة والسعوديّة والإماراتيّة واليمنيّة والسودانية، إلى لبنان لمساعدته في ترسيخ الأمن وبسط سلطة الدولة ووضع حدّ للحرب التي انفجرت في 13 نيسان 1975 وعُرفت بحرب السنتين، وانقسام اللبنانيين بين “الجبهة اللبنانية”  التي تضمّ الأحزاب المسيحية وبين “الحركة الوطنية” التي تنضوي تحت لوائها الاحزاب الإسلامية والمنظّمات الفلسطينية، صدر “المرسوم رقم 1” الذي يفرض الرقابة المسبقة على الصحف اللبنانية إبتداءً من 1/ 1/ 1977، وكُلّفت المديرية العامة للامن العام بتنفيذه، فكانت الصحف تُرسل نسخة عن العدد إلى المديريّة العامّة للأمن العام التي انتقلت من مركزها قرب العدلية في بيروت الى قصر شقير في الاشرفية، وكان ويتولى المدير العام اَنذاك الكولونيل انطوان الدحداح الرقابة، تساعده ثلاث مجموعات من كبار الضباط أذكر منهم زاهي البستاني، الذي عُيّن لاحقا مديرًا عاماً للأمن العام وإيلي ضاني، وبطرس عون، ورؤوف عطاالله، وأنطوان إسطفان، وكنت اَنذاك مكلّفاً من إدارة جريدة “صوت الأحرار” بأخذ نسخة عن الصحيفة إلى الرقابة. 

 

في اليوم الأول، مرّت مواد التحرير طبيعيّاً، إلّا أنّ مشكلة برزت في الصفحة قبل الاخيرة حيث واجهنا نقصاً في الموادّ فاستعنّا بصورة لهرّ لسد الفراغ، فسألني الكولونيل الدحداح ماذا تقصد من هذه الصورة؟  فأجبته لا شيء… إنّما اضطررت لها بسبب نقصٍ في المواد، فلم يقتنع وطلب منّي إلغاءها ووضع مواد أخرى مكانها. حاولت إقناعه بأن لا مواد لدينا لكنه أصرّ على طلبه، فعدتُ وطلبت طبع العدد كما هو.

في اليوم الثاني عاتبني المدير العام لعدم تقيّدي بتعليماته وامتدّ مقصّ الرقابة ليتناول مقاطع من تصريح للرئيس كميل شمعون، فرفضت التقيّد، وصدرت الصحيفة والتصريح  يتصدّر العدد،  لانّني اعتبرت أنّه إذا كان زعيم بحجم الرئيس شمعون يُمنع من قول رأيه فماذا يبقى! 

 وبقينا على هذه الحال من المدّ والجزر نحو شهر إلى أن زار الكولونيل الدحداح الرئيس شمعون، الذي طلب منّي ان أتعاون معه. وفي عصر اليوم نفسه إنتقد الرئيس شمعون سياسة الحكم والحكومة بعنف، وابرزنا تصريحه في مانشيت الجريدة.

 لدى وصولي الى المديريّة استدعاني المدير العام وأبلغني بزيارته للرئيس شمعون وبأنه سيقوم شخصيًا (بتفويض من فخامته)  بتطبيق الرقابة على الجريدة لتحسينها، فأجبته أنّني بُلّغت بزيارتك، ثمّ بدأ يقرأ المانشيت ويشطب منها بكثافة، ولم يترك الّا نحو النصف،  كما طلب منّي أيضًا أن اضع اخبارا أخرى مكان تلك التي قام بشطبها. لكنني عُدت إلى المطبعة وطلبت طبع العدد كما هو من دون حذف أي كلمة. 

الأمير فاروق أبي اللمع والكولونيل أنطوان الدحداح

 

وهكذا تتابعت الأيّام إلى أن عُيّن الأمير فاروق أبي اللمع مديراً عاما بدل الدحداح… وبعد أيّام أدلى الرئيس شمعون بموقف ينتقد فيه بقوّة طريقة معالجة الحكم للوضع القائم، فجرى تشطيب معظم مواقف التصريح، وكالعادة لم ألتزم.

 في اليوم التالي أصدر الأمن العام قراراً يقضي بإقفال جريدة الأحرار وجريدة الشرق ليومٍ واحد، ففرحنا بالعطلة غير المنتظرة، ولكنّ عند الساعة الخامسة عصراً طلب الرئيس شمعون رؤيتي وبادرني قائلاً: “لم ارك اليوم، ألا تريد ان تسألني شيئاً؟”…أجبت: “خليها لبكرا لأن لا جريدة غداً”، سأل: “لماذا؟”، فأجبت: “انه قرار الأمن العام  بمنع إصدار جريدة الأحرار لمخالفتها قرار الرقابة كوني لم أتقيّد بقرار حذف تصريح فخامتك بالأمس”. 

غضب الرئيس شمعون وطلب من السكرتيرة الاتّصال بالمير  فاروق، وعندما أصبح على الخط، قال له “يا مير عم يقولولي انّو بكرا ما في جريدة أحرار ليش؟”، فأجابه أبي اللمع: “بسبب تصريح فخامتك”،  فقال الرئيس شمعون: ” شو بطّل الواحد يقدر ينتقد دولتو… اذا هيك الأحرار بكرا طالعة وشو بيطلع بإيدكم ما تقصروا”، وأقفل الخط ثم نظر الي وقال “منيح هيك؟ روحوا شتغلوا”.

وفي أحد أيام كانون الثاني ١٩٧٨ وكان البرد قارصا،  وصلت إلى المديرية العامة للأمن العام ودخلت غرفة الرقابة، فوجدتهم نياما على الطاولة ويغطون في سبات عميق، ولم يطاوعني قلبي أن اوقظهم، فأخذت الأختام ومهرت الصفحات وغادرت، حيث تم طبع الجريدة.

الزميل جورج برباري يسجل تصريحا لرئيس الجمهورية الاسبق كميل نمر شمعون

 

وفي اليوم التالي قامت القيامة في المديرية، وأتى وفد من المفوضين الى مكاتب الجريدة، بهدف معرفة من من اللجنة وافق على الأخبار وختم على الصفحات. فأتصلوا بي من الجريدة وحضرت، وكان ألوفد برئاسة المفوّض رؤوف عطالله، (استقال لاحقا والتحق بالأمن العام الفرنسي) فأخبرته الحقيقة، وعلمت لاحقا لدى ذهابي إلى الرقابة أن عقوبات اتخذت بحق الفريق المناوب.

وبعد نحو شهر طرأت احداث القاع واهدن فتوقفت الرقابة ثم بدأت ما عرف بحرب المئة يوم.

خلاصة، لقد أثبت ضبّاط الأمن العام بالرغم من سيطرة الميليشيات على الشارع أنّهم جنود دولة وعلى قدر المسؤولية ورغم إناطة دور الرقابة على الصحف بهم، فقد أبدوا حنكةً مبطّنة بتدوير الزوايا والتوفيق بين مقتضيات المرحلة السابقة من جهة  والحرّيّات الصحافية من جهة أخرى.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *