بيروت أرض المعنى تستعصي على الكَسْر

Views: 687

د. زهور كرّام

هل هي مصادفة قدرٍ عابِرٍ في الزَّمن، أم أنّ للأمر حكاية منحوتة سرّاً في مدينة بحجْم وطن؟

ليست كلّ المُدن مُؤهَّلة لاحتضان الوطن. أن تتحوّل مدينة إلى وطن، ففي الأمر حكاية سرّ المدينة عينها.

بيروت: عندما تلفظ هذا الاسم، يحضر لبنان وشجرة الأرز وجبران خليل جبران وفيروز ووديع الصافي والجبل ومجلّةُ الآداب ومجلّةُ شعر والثقافةُ المفتوحة على التنوُّع المُتعدّد وقبل ذلك كلّه تحضر الحياة سرّاً من أسرار بيروت وأهلها وجمالها.

ليست كلّ المُدن تشبه بعضها؛ فبعض المُدن ينسحب من تاريخ الوطن، والبعض الآخر يظلّ مُستعصياً عن الحياة، فيما مدنٌ أخرى تنكسر عند أوّل عثرة وأخرى تخونها الحياة عندما يلبسها السواد.

لبيروت سرّها الخاصّ والاستثنائي. ولبنان من سرّ بيروت.

هل هي مصادفة قدرٍ عابرٍ في الزَّمن؟ أم أنّ للأمر حكاية منحوتة سرّاً في مدينة بحجْم وطن؟

بين 1920 و2020 مئة عام على تاريخ إنشاء دولة لبنان الكبير، ويشاء القدر أن تنفجر بيروت، وهي تستقبل السنة المئويّة على إنشاء لبنان الكبير وعاصمته بيروت. تَختم بيروت مئويّتها كعاصمة بأكبر حَدَثٍ مأسويّ اعْتُبِر من أقوى الانفجارات في العالَم.

وبين تأسيس الدولة وانفجار المرفأ، عاشت بيروت محطّات من تحدّي المَصاعب والحصار والحروب والنِّزاعات والصراعات والانفجارات، وظلَّت واقفة، لم تنكسر. غير أنّ انفجار مرفئها الأخير كان أكثر إيلاماً.

مدينة تنهض كلّ مرّة من قلب الرماد.

تخيَّل مدينة تتجرَّع كلّ مرّة السموم التي تلفظها الكوارث الطبيعيّة والبشريّة والسياسيّة والطائفيّة والعالَميّة، وتنهضُ مُقاوِمةً الاستسلام، تُعيد ترميم الحياة، وتصنع من الترميم حياةً جديدة وأكثر جمالاً. مدينة تُتقن تخليص ناسها من شرّ الشقاء، وتُحفِّزهم بفلسفتها على الحياة، مدينة تجعل جرعة الحياة أقوى من جرعات الموت. باختصار، مدينة بروح الحياة، أو بطعم أنثى تستعصي على الانكسار. مدينة بأُفق الفلسفة.

يوم 4 آب (أغسطس) 2020، اندلع حريقٌ في مرفأ بيروت، وقبل أن يُطفئ فَوجُ الإطفاء الحريق، انفجرَ المرفأ، فانفجرت معه بيروت. وانفجرَ الشباب، فاحترقت الأمومة مرّة أخرى، كما احترقت مع الحرب الأهليّة والنّزاعات الطائفيّة والعدوان الإسرائيلي وتَبعات الموقع الجيو سياسي للبنان.

هل ما يزال في الجفن دمعٌ، أم الدمع جفّ، فولَّد عيوناً جافّة تحكي بمرارة قدر بيروت؟

كيف يُمكن إعادة رسْم ابتسامة بيروت من تحت الأنقاض؟ هل الأمر مُمكنٌ، أم فيه مُجازَفة بمنطق اللّغة؟ هل تمتلك اللّغة جرأة إعادة ترميم الابتسامة، وما يزال نبضُ قلبٍ تحت الدمار؟

كيف يُمكن ترويض اللّغة على فتْح مَنافذ جديدة تقود إلى بيروت وهي بعدُ جريحة؟ أم إنّ الخَجَلَ يعتري اللّغة حين تقترب من العيون الجافّة، وهي تُطلِق حكاية مدينة ما تكاد تنهض من جرحٍ حتّى تسقط في جراحات.

بعيداً من اللّغة، قريباً جدّاً من بيروت نفسِها، نَلمح المَنفذ إليها، وإنْ ساد الظلام تحت الأنقاض، فإنّ نبضةَ قلبٍ توجد بذاكرة بيروت، وبحفريّاتها الأثريّة التي تكشف عن تنوّعِ الحضارات التي أقامت في بيروت وتركت أثرها شاهداً على أنّ المدينة لم تكُن فضاءً للعبور الحضاري والثقافي والإنساني، وإنّما كانت أرضاً لإقامة المعنى.

صناعة الموت

مئة عام مرّت على بيروت عاصمة لبنان، زمنٌ تاريخي عَرفَت فيه بيروت هزّات وزلازل ونكبات وحروباً وعدواناً وصدامات وانفجارات اعتُبر آخرها من أقوى الانفجارات التي عرفتها البشريّة. وخلَّفت هذه الهزّات ضحايا وقتلى ومفقودين ومُشرَّدين ونازِحين، وأدَّت إلى تدمير البنية التحتيّة والبيوت والمؤسّسات، ولم تسلم منها المَعالِم التراثيّة والتاريخيّة كما حدثَ مع انفجار مرفأ بيروت يوم 4 آب (أغسطس) 2020.

من 1920 إلى 2020 تعرَّضت بيروت، ومعها لبنان كلّه، لهزّاتٍ وحروب ونِزاعات حوَّلتها إلى مسرحٍ لأحداثٍ دمويّة، من زلزال ضربَ لبنان عام 1956 بشكلٍ قوي وُصِف بالعنيف. ونتج عنه تدمير آلاف المنازل، كما تضرَّرت مئات أخرى إلى جانب قتلى ومفقودين، إلى تأثُّر لبنان بالعدوان الإسرائيلي على سوريا والأردن ومصر عام 1967، ثمّ اعتداء إسرائيلي على مطار بيروت عام 1968، فالحرب الأهليّة التي استمرّت من 1975 إلى 1990، واعتُبِرت حرباً دمويّة استمرّت أكثر من 15عاماً، وأَسفرت عن مَقتل ما يقدَّر بـ 120 ألف شخص، إلى جانب نزوح ما يُناهز المليون شخص من لبنان، وتحوَّلت المباني المُخرَّبة بالقنابل والرصاص إلى ذاكرة لأعنف حرب أهليّة، وواجِهة مأسويّة تُوثِّق عنف الحياة زمن الحرب، وتَرسم تاريخ الدمّ الذي جرى بين الأهل في بيروت/ لبنان. ثمّ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، واغتيالات كان أشدّها اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005، وقبل أن تُرمِّم بيروت حُزنها وجَرحها وتعود إلى الحياة، يتعرّض لبنان ومعه بيروت لعدوانٍ إسرائيلي في حرب تمّوز 2006، ثمّ انفجار مرفأ بيروت 2020 الذي حرقَ وكسَر ودمَّر وهزَّ المدينة ولوَّث سماءها وبحرها ورمى بأهلها في سؤال “المعنى”، وتركَ قلب الأمّ يتشقَّق مرارة، ثمّ حزِن الحزنُ بدَوره على مدينة تُشبه الشمس في الحياة، لكنّ أعداء الشمس يتناسلون ويتوالدون ويصرّون على صناعة الموت.

وبين عدوان وحرب أهليّة، وصِدام ونزاعات طائفيّة، واغتيالات وتصفية حسابات، تتحوّل بيروت إلى مسرح للتجاذُبات السياسيّة والصراعات الطائفيّة، والأطماع الخارجيّة، والانفتاح المستمرّ على الاحتمالات المُمكنة لإعادة بيروت إلى الألم.

تنتهي الحرب، فتتركُ وراءها ضحايا وقتلى وجرحى ومَفقودين ومشرَّدين، وبنية تحتيّة مدمَّرة. تخفّ الصراعات، غير أنّها تظلّ هاجِساً يُربك محاولات التعايش مع المستجدّات. تتراجع النزاعات مرحليّاً، لكنّها تتحوّل عبئاً ثقيلاً على الذاكرة الجماعيّة، تُحرِّض على ردّ الفعل المُرتقب. وقبل ذلك، تترك قلب الأمّ يتآكل حرقةً على رحيل ابن أو هجرته أو فقده أو النزوح به، وهو ما يزال طفلاً لا يُدرِك من الأمر شيئاً، ما يجعلها واقفة باستمرار على عتبة الانتظار، انتظار انفراج الوضْع وحلول الأمان، انتظار عودة المُهاجر أو الرجوع من النزوح، انتظار حلّ الأزمة والتحرُّر من العتبة، عتبة الانتظار المُرعب والقاهر والقاتل.

بيروت.. أنثى تستعصي على الكسْر، تحيا بقلب الأمّ التي ما تزال تحتفظ بعطر ابنها الذي رحل أو هاجر، حتّى لا تنسى رائحته، تُقاوم بقوّة الأنوثة الجبّارة والعزيمة القويّة.

مدينة لا ترتاح من الألم والوجع. تخرج بيروت من حزن إلى حزنٍ. ما إن تتنفّس الاستقرار حتّى تعود إلى الحزنٍ، ثمّ تستمرّ في الحياة.

من أين ينبع سرّ بيروت للحياة؟ من التاريخ أو الجغرافيا، من الإنسان أو الثقافة، من الذاكرة الجماعيّة أو الهويّة المركَّبة؟ هل لأنّها مدينة قادمة من التاريخ بنور العِلم والثقافة؟ أم لأنّ أهلها خبِروا السفر في المكان والزَّمن واكتسبوا تجربة التعايُش مع الاحتمالات؟ أم ينبع سرّ بيروت للحياة من فلسفة خاصّة تجعل بيروت أنثى تستعصي على الكسر؟

بيروت ليست مجرّد بنايات وفضاء جغرافي ومعماري، يتمّ تفجيره بحربٍ أو نزاعٍ أو بأمر السياسة أو الطائفة، هي زمنٌ مفتوح على الحياة، ممتدّ في الإنسان اللّبناني الذي يمتلك قدرة على إبداع الجمال وحمَلَ الوطن معه إلى كلّ القارّات.

المدينة ليست مجرّد إقامة في جغرافيّة أو عبارة عن بنايات للسكنى وطُرق للسير وجسور للعبور، المدينة هي إقامة في المعنى. ليست كلّ المُدن تنتصر للإقامة في المعنى. فبعضُ المُدن يظلّ عابِراً في الأمكنة من دون أن يرسم مَلامح الإقامة في المعنى، والبعضُ الآخر يتعثّر عند أوّل انتكاسة في الفضاء، فيما مُدن أخرى تستمرّ باهتةً، يستعصي عليها المعنى.

بيروت أنثى تستعصي على الكسر، لأنّها إقامة في المعنى.. والمعنى ليس سوى توسيع مساحة الحياة في الإنسان الذي يُقيم في المدينة.

كيف تنهض بيروت بعد انفجار مرفئها وانطفاء ابتسامتها واحتراق قلب الأمّ التي جفَّ الدمعُ في عينَيها، ولم تجفّ كواليس السياسة من صناعة الدمار؟ كيف لا يخجل صنّاع الحرب والدمار من مدينة تنتزع الحياة من فَمِ الحرب؟ كيف لا يخجل أعداء الحياة من مدينة تبلع الحرب مرارة قاسية وتنهض انتصاراً للحياة؟ هل صنّاع الحرب والدمار يشبهون البشر أم هم من فصيلِ بشرٍ لم يكتمل بَشَراً؟

كيف لا يستحي صنّاع الحزن من عيون الأمّ وقد تحوَّلت إلى حكاية قاسية؟ من أين يأتي صنّاع الألم بالقدرة على بتر الابتسامة وهي مُشرقة شمساً؟ أيّ فصيلٍ من البشر هذا الذي لم يكتمل بَشراً وقد استساغَ لعبة الحرب؟ هل يُهدِّد صنّاع الموت “المعنى”؟ كيف تُصبح مدينة الشمس من دون “المعنى”؟ هل هي حربٌ على الحياة؟ أيّ فصيلٍ من البشر هذا الذي لم يكتمل بشراً ولم تحرقه دموع بيروت وهي تُودِّع كلّ مرّة أبناءها؟

من أين تأتي هذه المدينة بهذا الأُفق المفتوح على الصبر، والقدرة على الحياة، والجرأة على التعايُش مع حكايات صنّاع الموت؟

لبيروت سرّها الخاصّ والاستثنائي. ولبنان من سرّ بيروت.

بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ، وأندلسٍ وشام

فضَّةٌ، زَبَدٌ، وصايا الأرضِ في ريشِ الحمام

لبيروت من قلبي سلام

***

 (*) أكاديميّة وباحثة من المغرب

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *